جدّتي، حرب "المسكُب" لم تعد قديمة


جدّتي العزيزة،
أكتب لك من دنيا الفناء علّ رسالتي تصل إليك في دار البقاء.
جدّتي، أصبحت مؤخّرا ذكراك الطيّبة تلازمني، وكأنّ طيفك الحنون يأبى أن يبرح الوجدان ولو لهنيهات. كيف لا، سيّما وأنّ الأحداث المستجدّة في منطقتنا تعيدني إلى إحدى عباراتك الشهيرة التي كنت تنفردين بها مع قلّة قليلة من البيارتة الأتلاد. فكلّما كنت تريدين الدلالة، بشيء من التهكّم، على القِدَم الكبير لشيء أو إنسان أو حادثة ضاربة في التاريخ، كنت تردّدين على مسامعنا أنّها "من أيّام حرب المسكُب". عندها، كلّ ما فهمته منك حول هذا التعبير، هو أنّ حربا ضروسا كانت قد وقعت في زمن بعيد جدّا بين السلطنة العثمانيّة و"المسكُب"، أي الروس (إذ أنّ تعبير المسكب ليس إلّا تحويرا بيروتيا عتيقا لكلمة موسكو التي كانت تستعمل كإيجاز للدلالة على الروس)، وأنّ بيروت، التي كانت ضمن أراضي السلطنة، قد قصفت أثناء تلك الحرب من البوارج الروسيّة التي أتت لتجوب الساحل الشرقي للمتوسّط قبالة شواطئها. طبعا، أنت لم تشهدي حرب "المسكب"، ولكن وصلت أخبارها إليك، ومنك إلينا، بالتواتر. جدّتي، منذ رحيلك عنّا، شبّيتُ وتعلّمت واستفسرت وبحثت، وفهمت أخيرا أنّ المقصود تحديدا بحرب "المسكب"، هي الحرب السادسة (من مجموع 11 حرب) بين روسيا والدولة العثمانية التي استمرّت من 1768 حتّى 1774، وبالفعل فقد قاومت أثناءها بيروت القصف والحصار والنهب من قبل بحرية القيصر مرّتين، الأولى في 1772، والثانية سنة 1773 أثناء حكم أحمد باشا الجزّار.
جدّتي، طبعا إنّك تتساءلين لماذا أزعجك الآن، بعد أكثر من عقدين على غيابك، بكلّ هذه الذكريات والتفاصيل التي يمكن أن تبدو لك للوهلة الأولى ثانويّة جدّا. ولكن، أتدرين ما الجديد؟ جدّتي، ها هم "المسكب" يعودون! نعم، صدّقيني، إنّهم يعودون من غياهب الماضي السحيق. يعودون، ولكن هذه المرّة إلى سورية، بعقليّتهم الزوراء وذرائعهم البتراء. يعودون ببوارجهم الحولاء، ودبّاباتهم العرجاء، وطائراتهم الهوجاء التي تنشر الموت كالوباء. يعودون بنفس الأحقاد والضغائن والأعذار والتحالفات التي كنّا افتكرنا أن قد طواها الزمن، إلّا أنّهم نبشوها من كتب التاريخ لإعادة تكوين الجغرافيا. يعودون، ماسكين بشمّاعة الدين ليعلّقوا عليها خطايا حربهم العبثيّة ودعمهم لأعتى نظام قمعي في العالم. يعودون، متذرّعين بمحاربة داعش، في حين أنّهم يركّزون ضرباتهم على المعارضة المعتدلة التي كانوا جزموا أن لا وجود لها على أرض الواقع، إلّا أنّ مجازر الدبابات في ريف حمى والغوطة أتت لتقول عكس ذلك. ( من هم داعش؟ قصّة طويلة وبشعة. الجميع يعرف ولا أحد يعلم من هم، جدّتي).
وأتدرين ما الأنكى من ذلك، جدّتي؟ هو أنّ "المسكب" وجدوا من يصفّق لهم في لبنان على ما يقومون به في سوريا. نعم، وجدوا من يحمل صور رئيسهم ويعلّقها على السيّارات ليجوب بها الشوارع ممعنا بذلك في تحدّي مشاعر آلاف اللبنانيّين الذين يدينون أفعال آلة القتل الروسية، ومعمّقا الشرخ الحاصل في بلاد الأرز من جرّاء الحرب في سوريا. من يقوم بذلك؟ جماعة وأنصار مَن قصف بيتك ودمّره في 1989، خلال حرب لم يحرّر فيها لبنان إلّا من اللبنانيين الذين هاجروا بكثرة أثنائها. على إثر ذلك، لم تبقي معنا كي تشهدي كيف استهوته أيضا، بعد أشهر قليلة، محاولة إلغاء ما كان يشكّل عندها أحد مقوّمات صموده، تماما كمن يطلق النار على رجله.
ولكن اطمئنّي جدّتي، رغم العنتريات وعرض العضلات بسواعد الغير، فأكثريّة الشعب واعية ولن يقو أحد على تقسيمنا أو ضرب وحدتنا وعيشنا المشترك، وأنت تعلمين أنّها ليست مجرّد شعارات، بل هي فعل إيمان يومي. كيف لا، وأنت التي كنت، في أتون الحرب الأهلية اللبنانية، تخبّئين في بيتك الكثير من الأصدقاء والمعارف والجيران، وتساعديهم على الهروب إلى بيروت الشرقية بعد أن أصبحت حياتهم معنا في "الغربية" مهدّدة، فقط لأنّهم من طائفة مختلفة. فأصبحنا عندها، بين ليلة وضحاها، بلا طبيب في الحي ولا أساتذة ولا أنس ولا حياة. ولكن يبدو أنّ البعض لم يعتبر من ويلات الماضي. كما إنّي أذكر جيّدا كيف كنت تحتفظين بسيف ونياشين جدّي كضابط في الجيش العثماني من بدايات القرن العشرين، ولكن أذكر أيضا كيف كنت تدافعين عن العلم والأرزة والدولة في خضمّ حكم الميليشيات وجنون المدافع. باختصار، لا أنسى كيف كنت تقولين لنا، بطريقتك، أنّ ذاك تاريخ نعتزّ به، ولكن تخطّيناه لنقبل بلبنان التعدّدية.
ولكن للأسف، في المقابل، يبدو أنّ البعض ما زال يحنّ إلى أيّام الرجل المريض، والمسألة الشرقية، وحكم القناصل، والتدخّل الأجنبي التوسّعي بذريعة حماية الأقليات، وما شاكلها من ديباجات لم تعد تنطلي على أحد لأنّ المؤرّخين قد أشبعوها درسا وفضحوا حججها الواهية وأساليبها الملتوية. ولعلّ من أبرز ممّن يعود لهم الفضل في ذلك في لبنان، هو من شرح المسألة الشرقية وفصّلها في كتبه وأمام طلّابه لسنوات خلت، قبل أن يستشهد في 2 حزيران 2005، المؤرّخ والصحافي المبدع سمير قصير، الأرثوذكسي. أتعلمين أيضا أنّ المسبحة كرّت بعد استشهاده؟ فبعد أسابيع قليلة، تمّ تفجير موكب الوزير إلياس المرّ، الأرثوذكسي، فاستشهاد من كان أسّس جبهة المقاومة اللبنانية ضدّ الاحتلال الاسرائيلي، جورج حاوي، الأرثوذكسي، واغتيال زميل سمير قصير، الصحافي والنائب جبران التويني، الأرثوذكسي، الذين قضوا كلّهم أو أوشكوا لا لشيء، بل فقط لأنّهم تجرؤوا مع غيرهم من الشهداء، إبّان ثورة الأرز، على قول كلمة حقّ بوجه سلطان محتلّ وجائر، السلطان نفسه الذي يأتي اليوم لنجدته، من وراء البحار، من يدّعون احتكار تمثيل الأرثوذكس في العالم وحمايتهم في المنطقة بحرب مقدّسة. ماذا؟ تعجزين عن الاقتناع بمفارقة اللامنطق هذه ؟ لا تخافي، فلست وحيدة في ذلك، جدّتي. مهما حاولوا، لن يفرّقونا.
جدّتي الحبيبة، اعذريني على هذه الأخبار، فكما ترين، الأوضاع ما زالت غير سارّة، كما تركتيها منذ 25 سنة، لا بل أصبحت أسوأ حالا. عندما رحلت عنّا، كان جيلي بعمر العشر سنوات، وكانت الفتنة محصورة بلبنان. أمّا الآن وأنا في منتصف العمر، فقد تفشّت الفتن في الشرق بأسره. على مرّ هذه الأعوام، منّا من ثابر، ومنّا من بادر، ومنّا من هاجر، وكلّنا ننتظر الفرج. ولكن اطمئنّي، فما زالت أيضا إرادة الصمود قويّة، وما زال انتصار الحقّ والسلام هو المحرّك والمرتجى، وما زلت أنت وأناقتك وعنفوانك والذكريات الجميلة دائما في البال.
أدعي لنا.
بلّغي سلام الأحرار إلى طوابير الشهداء الذين يسقطون إمّا مباشرة بضربات "المسكُب"، وإمّا بسلاح "المسكُب" الذي يتدفّق بسخاء مقيت منذ أكثر من أربع سنوات.
اللّه معك تيتا.

Comments