"العلمانيّة هي الحلّ"، شعار يتكرّر كثيرا، في الآونة الأخيرة، كأحد العناوين البرّاقة للحراك المدني الذي يشهده لبنان إثر أزمة النفايات. فأمام المشاكل البنيوية في النظام اللبناني، لا سيّما الطائفية السياسية وما يتأتّى عنها من زبائنية وفساد مستشر وعقم في قدرة الدولة على الإنتاج والتطوّر، يعلّق الكثير من المتظاهرين آمالا كبيرة على العلمانية. وهم يتسلّحون بسوابق من مختلف بلدان العالم أثبتت أنّ فصل الدين عن الدولة يلعب عادة دورا أساسيّا في إشاعة السلام داخل المجتمعات التي تعتمده، ويساهم مساهمة فاعلة في تطويرها. إلّا أنّ العلمانية قد أحيطت أحيانا كثيرة، خصوصا بين النخب الثقافية والشبابية، بهالة من المثالية المبالغ بها وبمنسوب مرتفع جدّا من التفاؤل. فقد أصبح الاعتقاد السائد بين هؤلاء أنّ العلمانيّة تشكّل الدواء الناجع لشفاء الوطن من كلّ العلل التي يعاني منها، والحلّ السحري الذي لا يمكن أن تنتج أدنى مشكلة عن وضعه حيّز التنفيذ. ولكن، وبعيدا عن الجدل الديني المعترض على العلمانية، يبقى السؤال مطروحا عن مدى دقّة وواقعيّة هذا الشعار الأخّاذ (العلمانية هي الحلّ). فالكثير من الوقائع، في الغرب والشرق، تقول أنّ العلمانية ليست دائما على الصورة الخلّابة، الخالية من الشوائب، التي تُصوَّر بها. فمن الملاحظ أنّه، عند التطبيق، من الممكن في كثير من الأحيان أن يتمّ تحوير مفهوم العلمانية وتوجيهه تدريجيا نحو نهج إقصائي متعارض مع مبتغاه الأساسي.
فمن جهة أولى، تتحوّل العلمانيّة أحيانا من مفهوم تحرّري يجمع مختلف فئات المجتمع ويوحّدها، إلى مفهوم فئوي إقصائي يشكّل رأس حربة موجّهة حصرا ضدّ بعض الفئات ولمحاولة تهميشها. ففي السنوات القليلة الماضية، اتّخذ اليمين المتطرّف على وجه الخصوص، في البلدان الأوروبية، من مبدأ العلمانية ذريعة ضدّ المواطنين من أصول أجنبيّة، لا سيّما المسلمين منهم، للتدليل الخاطئ على عدم قابليتهم على الاندماج في المجتمعات الغربية. فعلى مدار السنة، تتناوب الاعتراضات مثلا ضدّ اللباس الإسلامي (الحجاب في المدارس والجامعات الرسمية)، وضدّ الطعام الإسلامي (الذبح الحلال، الوجبات في المدارس)، وضدّ بناء المساجد والخطبة بالعربيّة فيها، على أنّها تشكّل كلّها ممارسات طارئة وغريبة تتعارض مع قيم العلمانية الراسخة في الغرب (وقد تكرّر ذلك مؤخّرا ضدّ اللاجئين السوريّين الذين لقيت، وبناء على نفس الذرائع، إمكانية استقبالهم في أغلب الدول الأوروبية معارضة كبيرة). فيتمّ بذلك الربط المباشر بين علمانية متزمّتة، ترفض أحيانا أي مظهر من مظاهر الدين من جهة (حتّى مغارة الميلاد في المدارس الرسميّة في فرنسا مثلا)، ومفهوم الهوية القومية بمعناه المغلق من جهة أخرى. وبهذا الربط، لا تعود العلمانية مبدأ للاندماج وللانفتاح على الآخر، وحلا عمليا يتيح تنظيم الاختلاف والعيش المشترك ضمن المجتمع الواحد، بل تتحوّل إلى مجرّد غطاء للتمييز العنصري (الإسلاموفوبيا في هذه الحالة)، وذريعة تستعملها الأكثرية (أو جزء منها) لتهميش بعض الأقليات. وقد تعالت في فرنسا مثلا أصوات كثيرة لكتّاب وصحافيّين واختصاصيّين في علم الاجتماع للتنديد بالتحوير الحاصل للعلمانيّة
(Jean BAUBEROT, La laïcité falsifiée, La Découverte, 2014
Edwy PLENEL, Pour les musulmans, La Découverte, 2014
Emmanuel TODD, Qui est Charlie ? : Sociologie d'une crise religieuse, Seuil, 2015)
(Jean BAUBEROT, La laïcité falsifiée, La Découverte, 2014
Edwy PLENEL, Pour les musulmans, La Découverte, 2014
Emmanuel TODD, Qui est Charlie ? : Sociologie d'une crise religieuse, Seuil, 2015)
وعلى صعيد آخر وأكثر خطورة، يمكن أن يتمّ تحوير العلمانيّة أيضا عن طريق تحويلها إلى ذريعة في يد أنظمة دكتاتوريّة لتجميل صورتها والدفاع عمّا تقوم به من قمع لشعوبها. والتاريخ القريب للشرق الأوسط مليء بالأمثلة على ذلك. فباسم العلمانية (والتقدمية والحداثة ومحاربة الرجعيّة والتخلّف)، استأثرت النخب العسكرية بالسلطة في كثير من البلدان العربية على مدار عقود من الزمن، وفرضت نظام الحزب والرأي الواحد. والتجربة الناصرية في مصر، بالرغم من حسناتها الكثيرة، خير دليل على ذلك. وباسم العلمانية، تمّ مطوّلا قمع الأكثرية الطائفية من قبل بعض الأقليّات (تجربتي البعث في سوريا والعراق). وبذريعة الائتمان على العلمانية وحمايتها، تمّ مرارا الانقلاب العسكري ومصادرة النظام الديمقراطي (تركيا)، أو إلغاء نتائج انتخابات لا تناسب السلطة (الجزائر 1991)، ناهيك عن سلسلة من الإعدامات لمعارضين، ومنهم رجال دين، أو تعدّيات على الحريات الدينية، كإيران التي كانت أوّل دولة تشهد، سنة 1936، قانونا يمنع ارتداء الحجاب في الأماكن العامّة مع ما رافقه من صرامة وعنف في التطبيق، ممّا أنتج أيضا ردّة فعل عكسيّة بعد عقود من الزمن.
(Pierre-Jean LUIZARD, Laïcités autoritaires en terre d'islam, Fayard, 2008).
(Pierre-Jean LUIZARD, Laïcités autoritaires en terre d'islam, Fayard, 2008).
هذا لا يعني إطلاقا أنّ كلّ هذه الأمثلة يجب أن تشكّل سببا لرفض العلمانية برمّتها، بل هي حافز للنظر إلى العلمانية بواقعية وبعيدا عن الأحلام الورديّة التي تحيط بها في عقول البعض. ولذلك، من الأفضل عدم إلغاء (أو إسقاط) النظام الطائفي بتسرّع ( بالرغم من ضرورة إلغائه)، قبل إيجاد البديل الجدّي. فالقول بأنّ العلمانية هي الحلّ غير كاف، لأنّ الأهمّ يبقى أن نحدّد أي علمانية نريد، وأن نحيطها بضمانات دستورية تحول دون تحويرها عن هدفها، أي كي لا تصبح يوما ما، في حال اعتمادها، أداة طيّعة بيد فئات سياسية واجتماعية تتّخذها ذريعة لممارسة تمييز مقنّع ضدّ فئات أخرى، أو وسيلة خبيثة لتذويب بعض الأقليات الدينية في الشرق وضرب الحريات الدينية، أو مطية لنظام استبدادي يقوم باستعمالها لتصوير نفسه جزافا على أنّه متنوّر وعادل. بكلام آخر، يجب اتّخاذ كلّ الاحتياطات القانونية كي لا تتحوّل العلمانيّة من مشروع حلّ إلى مشكلة قائمة بذاتها. ولذلك، فإنّه لا يمكن عمليا إقرار قانون لانتخابات نيابية خارج القيد الطائفي دون أن يتمّ، بالتوازي، إنشاء مجلس شيوخ يمثل الطوائف ويضمن حقوقها (كما هو منصوص عنه في الدستور وملحوظ صراحة في اتفاق الطائف). كما أّنّه لا يمكن مثلا إقرار قانون مدني للأحوال الشخصية دون التأكيد، أقلّه، على حريّة المواطن في اختيار قانون الأحوال الشخصيّة (ديني أو مدني) الذي يريد.
خلاصة القول هو أنّه ربّما حان الوقت لكي نخرج من ديموغاجية الشعارات الكليّة ومن نمطيّتها، وأن نعتمد على كوكبة من المبادئ البراغماتية الإصلاحية السلسة، التي يمكن أن تكون العلمانية المنفتحة والمتسامحة من بينها، وذلك من أجل الإرساء الفعلي، عبر الوسائل الدستورية، لدولة مدنية حديثة تقوم على مبدأ المواطنة، وتحفظ الخصوصية التعدّدية اللبنانية.
Comments
Post a Comment