كما كان متوقَّعاً (مراجعة مقال "وامتنع لبنان!" بتاريخ 12/01/2016)، وقعت الواقعة..
قرّرت المملكة العربية السعودية، في 19/02/2016، وقف هبتين بقيمة 4 مليارات دولار لتسليح الجيش وقوى الأمن الداخلي اللبنانيّة -وهما الأكبر في تاريخ تسليح الجيش اللبناني. وقد جاء ذلك، كما ذكر مصدر سعودي مسؤول إلى وكالة الأنباء السعودية الرسمية "واس"، في إطار "مراجعة شاملة لعلاقتها (المملكة) مع الجمهورية اللبنانية"، وبسبب "مواقف لبنانية مناهضة للمملكة على المنابر العربية والإقليمية في ظل مصادرة ما يسمى "حزب الله" لإرادة الدولة كما حصل في مجلس جامعة الدول العربية وفي منظمة التعاون الإسلامي من عدم إدانة الاعتداءات السافرة على سفارة المملكة في طهران والقنصلية العامة في مشهد، فضلاً عن المواقف السياسية والإعلامية التي يقودها ما يسمى "حزب الله" في لبنان ضد المملكة العربية السعودية وما يمارسه من إرهاب بحق الأمة العربية والإسلامية".
وقد سارعت كلّ من دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، ومن ثمّ كلّ دول مجلس التعاون الخليجي، إلى تأييد هذا القرار.
وكان قد سبق ذلك، بيومين فقط، قرار البنك الأهلي السعودي بإقفال فرعيه في لبنان وإعادة الودائع إلى أصحابها.
كلّ هذه المؤشّرات، إن دلّت على شيء، حتّى في النظر الضعيف بعض الشيء لبعض حلفاء المملكة في لبنان الذين فضّلوا مطوّلاً دفن الرؤوس في الرمال بدل الانتباه للتبدّلات المهمّة الحاصلة في المنطقة والعمل بمقتضاها لتدارك المشاكل مع المملكة، فهي تدلّ بوضوح تامّ على تغيير كبير في سياسة المملكة العربية السعودية تجاه لبنان بعد صبر جميل قد نفذ.
ويندرج هذا التبدّل في موقف المملكة تجاه لبنان ضمن تغيير أشمل في سياستها الخارجية العامّة في الإقليم، والمتمثّل عمليّا -منذ "عاصفة الحزم" في اليمن ابتداء من مارس/آذار 2015، وصولاً إلى الإعلان مؤخّراً عن نيّة المملكة تشكيل "درع الشمال" للتدخّل البرّي في سوريا- بقرار المواجهة المباشرة لأدوات المدّ الإيراني واحتواء هذا المدّ في البلاد العربيّة.
فمن المسؤول في لبنان عن تردّي العلاقة مع السعودية، ومن خلالها مع كثير الدول العربيّة؛ كي لا نقول مجملها، ووصول الأمور إلى هذا الدرك المؤسف من شبه العزلة التامّة عن المحيط العربي؟
إذا كان حديث المصدر السعودي -المقتبس آنفاً- يشير بوضوح إلى من يتحمّل المسؤولية المباشرة عن تدهور العلاقات اللبنانية/السعودية، فإنّ ذلك لا يعني أنّ القوى السياسية الأخرى هي بمنأى عن أي مسؤولية، ولو بنسب متفاوتة.
1) فمن جهة أولى، من البديهي أنّ أي دولة ذات سيادة لا يمكنها، ومهما ربطتها أواصر أخوّة ببلد آخر، ومهما عضّت على الجرح، أن تقف مكتوفة الأيدي أمام الإهانة الصادرة من هذا البلد.
فلأنّ رئيس وزراء فرنسا قد استدرج مؤخّرا، أثناء برنامج تلفزيوني عرض في 17/01/2016 وبعد منتصف الليل، إلى أن يلمّح مجرّد تلميح إلى أنّ الرئيس الغابوني -علي بونغو- غير منتخب ديمقراطيًّا، قامت قيامة الغابون ولم تقعد بالرغم من العلاقات الممتازة بين البلدين. وقد استدعى الغابون على وجه السرعة سفيره في فرنسا للتشاور، ثمّ استدعى السفير الفرنسي في الغابون لتسليمه رسالة احتجاج رسمية للحكومة الفرنسية، وكلّ ذلك بسبب ما يمكن اعتباره زلّة لسان لرئيس الوزراء الفرنسي.
فما بالك لو نظّمت حملة ليس للانتقاد الموضوعي الحرّ، بل حملة من التعرّض والشتم والقذف والتجنّي والتعكير الممنهج لعلاقات لبنان مع المملكة العربية السعودية.. حملة مبرمجة من قبل حزب يشارك في الحكومة اللبنانية، لا بل يستأثر عمليًّا، من بين ما يستأثر، بقرار الحرب والسلم على طول الحدود اللبنانية، ويقاتل في أكثر من دولة عربيّة مهدِّداً أمن واستقرار هذه الدول والأمن القومي العربي برمّته.. حملة تبدأ بتكفير الوهابية، لا سيّما من قبل المناصرين على وسائل التواصل الاجتماعي، مروراً بـ"شيطنة" المملكة واتّهامها بأنّها ليست إلّا الوجه الآخر لداعش، ولا تنتهي بالتخوين وهتافات "الموت لآل سعود".
ناهيك، بشكل أعمّ، عن كثير من هبّات العنصرية والفوقية، المضحكة المبكية، عند شرائح واسعة من اللبنانيين من كلّ الطوائف دون استثناء، والموجّهة ضدّ باقي العرب، لا سيّما السعودية، بالرغم من أنّهم، في الواقع، سبقونا وبأشواط في كثير من مجالات الاقتصاد والعلوم والبناء والتطوير والحداثة والثقافة والانفتاح على العالم.
أمام هذا الخطاب العامّ من الكراهية الصرفة والفتنة والتهجّم العارم والمستمرّ، حتّى أيّوب عليه السلام، لكان ربّما صبره قد نفذ.
2) المسؤول المباشر عن عزلة لبنان المستجدّة هو أيضاً رئيس الحزب المتحالف مع حزب اللّه بورقة تفاهم ملزمة، وهو نفسه الوزير اللبناني الذي ميّز نفسه عن 21 وزير خارجية دولة عربية في 10/01/2016، ومن ثمّ عن 55 وزير خارجية في منظمة التعاون الإسلامي في 22/01/2016 (إلى جانب الجزائر التي ذهبت أبعد من ذلك إذ سجّلت تحفّظها على البيان)، وقرّر الامتناع عن التصويت على إدانة الاعتداءات على السفارة السعودية في إيران، بعد ديباجة مطوّلة وغير مقنعة عن حياد، ولكن في الواقع غير محايد، للبنان.
3) ولكن إلى جانب هذين المسؤولين المباشرين، أليس رئيس الحكومة اللبنانية، الذي يبدو متعجّباً من القرار السعودي، أليس مسؤولاً أيضاً، ولو ربّما بدرجة أقلّ، عن تدهور العلاقات مع السعودية؟
ألم يفاجئ هو الجميع، لا سيّما مناصريه، بتأمين التغطية السياسية الكاملة لوزير خارجيّته والتنسيق التامّ معه، لا سيّما بعد امتناعه عن التصويت في مؤتمر وزراء الخارجية العرب؟
ألم يعتبر أنّ موقف وزير خارجيّته بالامتناع عن التصويت في هذا المؤتمر ممتاز لأنّه ينسجم مع سياسة النأي بالنفس ومع البيان الوزاري التي نالت الحكومة الثقة على أساسه؟ ألم يلزم موقف رئيس الحكومة بذلك، من الناحية الدستورية، الحكومة جمعاء، ويحمّل الدولة اللبنانيّة التبعات الدوليّة التي يمكن أن تتأتّى عنه؟
4) بالإضافة إلى رئيس الحكومة، ألا تتحمّل أيضاً قوى 14 آذار، الحليفة للسعوديّة، لا سيّما تلك المشاركة في الحكومة مع حزب الله، وعلى رأسها تيّار المستقبل، المسؤولية، ولو غير المباشرة، عن تدهور العلاقة مع المملكة وعبرها مع المحيط العربي للبنان؟ ألم ينتقل وزراء 14 آذار، لا سيّما أغلبية وزراء تيار المستقبل، من سياسة "ربط النزاع" مع حزب الله داخل الحكومة، إلى التعاون، فالتماهي، فالخضوع شبه الكامل لإملاءاته، لا سيّما الأمنية منها؟ ألم يؤمّنوا عمليّا، منذ ما يناهز السنتين، تغطية مؤسّساتية لقتال الحزب في سوريا وخرقه للحدود؟
باختصار، هل يكفي تسجيل الاعتراضات اللفظية على سياسات حزب الله اللبنانية والإقليمية، في حين أنّ هذه القوى شريكة معه، بالتكافل والتضامن، في حكومة واحدة؟ وهل تعتقد فعلاً قوى 14 آذار المشاركة في الحكومة أنّ هذا اللعب على الحبلين، وذرّ رماد الاعتراضات اللفظية في العيون، ما زالا ينطليان على أحد، إن كان في قواعدها الشعبية أو في الدول العربية؟ هل تعتقد أنّ التباري والتحاذق فيما بينها على ترشيح شخصيات من 8 آذار، شديدة الصلة بحزب الله، لرئاسة الجمهورية، دليل على ابتعادعها عن هذا الحزب واعتراضها على سياساته، أم بالأحرى انسجام كبير مع خياراته؟
طبعا، إنّ محاولة تحديد المسؤوليات الداخلية عن عزلة لبنان الزاحفة عربيًّا لا يعني أنّه يجب تأييد قرار المملكة، فبالرغم من حيثياته المتينة، إلّا أنّ قرار المملكة قد جانبه الصواب في بعض أبعاده الأساسية. فعزلة لبنان عربيًّا تعني عمليًّا تركه وحيداً في فم الذئب، وانتصار المحور الإيراني فيه، وهو ما ليس لا في مصلحة لبنان، ولا في مصلحة المملكة التي لا تألو جهدا في مواجهة المدّ الإيراني، ولا في مصلحة باقي الدول العربية أو أمنها.
فعلى الحكومة اللبنانية أن تبادر هي بالأوّل لمحاولة رأب الصدع وتصحيح العلاقة مع السعودية. والمبادرة يجب أن تكون بعيدة عن البيانات العلنيّة، وأن تكون جدية وعمليّة، مؤدّاها التعهّد بالحفاظ على حياد لبنان ولكن انسجاماً مع اتّفاق الطائف، أي ضمن مظلّة عربية تحميه ولو بالحدّ الأدنى.
أمّا قوى 14 آذار، فعليها أن تحزم أمرها وبسرعة بالعودة إلى الوضوح.. "عودوا إلى الشارع أيّها الرفاق، تعودوا إلى الوضوح" (سمير قصير). ولا عودة إلى الوضوح إلّا بالعودة إلى قواعدها الشعبية التي تطالب بفكّ أي ارتباط سياسي مع حزب اللّه، وفسخ العلاقة، لا سيّما الحكومية، معه في المستقبل، وخصوصاً وضع حدّ للتنازلات المستمرّة أمامه.
أمّا المشكّكون بجدوى هذه الخطوات، فمن الحري بهم أن ينتبهوا إلى أنّه ربّما يكون مصير المحاولة النجاح أو الفشل، ولكن الأكيد هو أنّ ترك الأمور جارية على ما هي عليه مع السعودية وباقي البلدان العربية، فيشي بأنّ الآتي سيكون أعظم فيما يخصّ عزلة لبنان العربية.
Comments
Post a Comment