يروى عن
يَعرُب بن كليلة الأصمعي، أنّه قال في ليلة ليلاء من ليالي آذار: حدّثنا عمرو بن
أمّ كلثوم الطَرَبي، عن الخليل بن أحمد الجرابيدي، عن رجل من شباب قبيلة كندة،
يقال له جمال الدين الأرجواني، ومنهم من كان يكنّيه بمغفّل كندة، طويل القامة، منتصب الهامة، أسمر البشرة، كثير الحشرة،
هيبّيُّ النزعة واللسان، يعيش من الحبّ والماء العذب (كما يقول الإفرنسيّون)، ذو
غفلة وبعض من الغباء، وذلك بسبب إدمانه على تدخين الحشائش المدودِخة وعلى تخزين
القات، لا تراه في أسواق الكوفة إلّا خمولا متلفّتا، يهزّ ضفائر شعره الأشعث على وقع
موسيقى إبراهيم (بوب) المارليّ.
وقد لقّب بالأرجواني نسبة للّون الأحمر في وجنتيه، إذ كانتا دائمتي التورّد من كثرة القبلات المطبوعة عليهما من شفتي زوجته. فقد كان الأرجواني متيّما بامرأة شديدة الجمال، كثيرة المال، رفيعة النسب، سديدة الحسب؛ وكانت، على نقيضه، متّقدة الذكاء، يقال لها خنساء الوادي؛ شغفها حبا رغم غبائه، و قبلت بالزواج منه بعد أن نظم معلّقة من ألف بيت أو يزيد في عشقه لها، معلّقة نالت جائزة الأوسكار في سوق عكاظ لروعتها.
عاش الزوجان في منزل متواضع في منطقة تعرف بسقط اللّوى، بين الدَّخول وحَوملِ (المفرق الأول علي اليمين)؛ وأثناء تنزّههما قرب المنزل كلّ مساء، كانا يمرّان برجل يعاني من الكآبة والسكيزوفرينيا، يقال له امرؤ القيس، يقف هناك وحيدا، يبكي من ذكرى حبيب وهمي يتراءى له بين الفينة والأخرى، فيتصدّقان عليه ببعض أعشاب البروزاك، وخلطات الكزاناكس، علّ مزاجه يصطلح ويتحسّن.
وقد عمل جمال الدين بعد الزواج بصناعة الشِعر وزخرفة القوافي، فكان ملك العَروض وأمير البلاغة، يجول كلّ صباح على أعيان قبيلته وشيوخها يمدحهم، فيتكرّمون عليه بما تيسّر من مال وطعام، يعود به مسرعا إلى الخنساء ليتغزّل بجمالها، ويتنعّم بدفء قبلاتها، وليطبّقا سويّا، باهتمام ومثابرة، ما تعلّماه من دروس الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه "نواضر الأيك في معرفة الَنيك".
في يوم من تلك الأيام الحمراء التي تلسع الدماغ بلهيبها، استدعى مجلس حكماء كندة الأرجواني، وعيّنه شاعرا رسميا للقبيلة، وطلب منه مرافقة فرسان كندة في غارة من غاراتهم القادمة على قبيلة بني صخر، علّه يمدّ إخوانه ببعض الحماسة من أبيات الفخر، ويرعب الأعداء بفنون الهجاء.
إلّا أنّ جمال الدين كان يجهل فنون الهجاء جهلا تامّا مدقعا، رغم ضلوعه في أصول الفخر والمدح والغزل، ولكنّه لزم الصمت خجلا أمام مجلس حكماء قبيلته. أمّا خنساء الوادي، فكانت شديدة التعلّق بحبيبها ولا تقوى على غيابه، وكانت تكره الحروب والمعارك، وهي التي عاشت ويلاتها أثناء داحس والغبراء.
مع طلوع فجر اليوم التالي، وصلت جيوش كندة على مشارف مضارب بني صخر، والسكون يخيّم بين الخيم، وبنو صخر يغطّون في سبات عميق، فأخذت كندة تتحيّز الثواني للانقضاض عليهم. كان الأرجواني في صفوف كندة الأمامية، ينظر بعيدا نظرة شاعرية نحو الأفق، نظرة لا تخلو، كالعادة، من الغفلة وبعض الهبل، يحمل بيده لفافة من "سجائره" الشعرية، وصفحة من البردى خطّ عليها بعضا من أبياته.
عندها، ترجّل الأرجواني عن حصانه، وتقدّم منفردا نحو مضارب بني صخر، تحت أنظار خلّانه المليئة بالدهشة والتعجّب؛ ، فأخذ يجعر جعيرا في مدح قومه، فشدّ من أزرهم، ورفع من معنوياتهم، وأعطاهم جرعة من الشجاعة قلّ نظيرها، إلّا أنّه بنفس الوقت قد أيقظ بني صخر من نومهم، فوثبوا من بين الأوتاد كوثبة ليث غضبان، وحملوا رماحهم، واستلّوا سيوفهم، وتوجّهوا بدروعهم، عازمين على مقارعة كندة وجبروتها.
ارتبك الأرجواني ارتباكا شديدا أمام نفرة بني صخر، وأراد أن يهجوهم، ولكنه تلعثم بسبب جهله فنون الهجاء، وفتل دخان الحشائش فتلة كاملة في نخاعه، وفعل فعله الدواريً فيها، واختلطت عليه الأمور.. فما كان منه إلّا أن مدح أعداءه، بدل أن يهجوهم، وأغدق عليهم بكلمات عطرة طيّبة، فاجأتهم وفاجأت قومه.. فانفجر الجيشان بالضحك على غباء الأرجواني.. قهقهات غيّرت في المزاج الحربي العامّ، وحرّكت الأفئدة والمشاعر، وأراحت المتيقّن والحائر؛ ضحكات أثلجت الصدور، ونشرت السرور، فشعّ النور، وسقطت السيوف، وتهاوت الدروع، وسالت الدموع، وتعانق أعداء الأمس، وعاش الجميع بعدها، بفضل غباء الأرجواني وبلاغته، في سلام تامّ وأمان.
أمّا الأرجواني، فقد نال على إثرها جائزة نوبل للسلام في حضرموت، وقد لقّب منذ ذلك اليوم بأبي الجائزتين، وعاد إلى حبيبته خنساء الوادي، ولم يتفارقا بعد ذلك قطّ.
من كتاب "نوادر الضجر في المترو الباريسي"، لأبي ساجة البيروتي، الجزء ٢، قريبا في الأسواق.
جداريّات رقميّة - 2
وقد لقّب بالأرجواني نسبة للّون الأحمر في وجنتيه، إذ كانتا دائمتي التورّد من كثرة القبلات المطبوعة عليهما من شفتي زوجته. فقد كان الأرجواني متيّما بامرأة شديدة الجمال، كثيرة المال، رفيعة النسب، سديدة الحسب؛ وكانت، على نقيضه، متّقدة الذكاء، يقال لها خنساء الوادي؛ شغفها حبا رغم غبائه، و قبلت بالزواج منه بعد أن نظم معلّقة من ألف بيت أو يزيد في عشقه لها، معلّقة نالت جائزة الأوسكار في سوق عكاظ لروعتها.
عاش الزوجان في منزل متواضع في منطقة تعرف بسقط اللّوى، بين الدَّخول وحَوملِ (المفرق الأول علي اليمين)؛ وأثناء تنزّههما قرب المنزل كلّ مساء، كانا يمرّان برجل يعاني من الكآبة والسكيزوفرينيا، يقال له امرؤ القيس، يقف هناك وحيدا، يبكي من ذكرى حبيب وهمي يتراءى له بين الفينة والأخرى، فيتصدّقان عليه ببعض أعشاب البروزاك، وخلطات الكزاناكس، علّ مزاجه يصطلح ويتحسّن.
وقد عمل جمال الدين بعد الزواج بصناعة الشِعر وزخرفة القوافي، فكان ملك العَروض وأمير البلاغة، يجول كلّ صباح على أعيان قبيلته وشيوخها يمدحهم، فيتكرّمون عليه بما تيسّر من مال وطعام، يعود به مسرعا إلى الخنساء ليتغزّل بجمالها، ويتنعّم بدفء قبلاتها، وليطبّقا سويّا، باهتمام ومثابرة، ما تعلّماه من دروس الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه "نواضر الأيك في معرفة الَنيك".
في يوم من تلك الأيام الحمراء التي تلسع الدماغ بلهيبها، استدعى مجلس حكماء كندة الأرجواني، وعيّنه شاعرا رسميا للقبيلة، وطلب منه مرافقة فرسان كندة في غارة من غاراتهم القادمة على قبيلة بني صخر، علّه يمدّ إخوانه ببعض الحماسة من أبيات الفخر، ويرعب الأعداء بفنون الهجاء.
إلّا أنّ جمال الدين كان يجهل فنون الهجاء جهلا تامّا مدقعا، رغم ضلوعه في أصول الفخر والمدح والغزل، ولكنّه لزم الصمت خجلا أمام مجلس حكماء قبيلته. أمّا خنساء الوادي، فكانت شديدة التعلّق بحبيبها ولا تقوى على غيابه، وكانت تكره الحروب والمعارك، وهي التي عاشت ويلاتها أثناء داحس والغبراء.
مع طلوع فجر اليوم التالي، وصلت جيوش كندة على مشارف مضارب بني صخر، والسكون يخيّم بين الخيم، وبنو صخر يغطّون في سبات عميق، فأخذت كندة تتحيّز الثواني للانقضاض عليهم. كان الأرجواني في صفوف كندة الأمامية، ينظر بعيدا نظرة شاعرية نحو الأفق، نظرة لا تخلو، كالعادة، من الغفلة وبعض الهبل، يحمل بيده لفافة من "سجائره" الشعرية، وصفحة من البردى خطّ عليها بعضا من أبياته.
عندها، ترجّل الأرجواني عن حصانه، وتقدّم منفردا نحو مضارب بني صخر، تحت أنظار خلّانه المليئة بالدهشة والتعجّب؛ ، فأخذ يجعر جعيرا في مدح قومه، فشدّ من أزرهم، ورفع من معنوياتهم، وأعطاهم جرعة من الشجاعة قلّ نظيرها، إلّا أنّه بنفس الوقت قد أيقظ بني صخر من نومهم، فوثبوا من بين الأوتاد كوثبة ليث غضبان، وحملوا رماحهم، واستلّوا سيوفهم، وتوجّهوا بدروعهم، عازمين على مقارعة كندة وجبروتها.
ارتبك الأرجواني ارتباكا شديدا أمام نفرة بني صخر، وأراد أن يهجوهم، ولكنه تلعثم بسبب جهله فنون الهجاء، وفتل دخان الحشائش فتلة كاملة في نخاعه، وفعل فعله الدواريً فيها، واختلطت عليه الأمور.. فما كان منه إلّا أن مدح أعداءه، بدل أن يهجوهم، وأغدق عليهم بكلمات عطرة طيّبة، فاجأتهم وفاجأت قومه.. فانفجر الجيشان بالضحك على غباء الأرجواني.. قهقهات غيّرت في المزاج الحربي العامّ، وحرّكت الأفئدة والمشاعر، وأراحت المتيقّن والحائر؛ ضحكات أثلجت الصدور، ونشرت السرور، فشعّ النور، وسقطت السيوف، وتهاوت الدروع، وسالت الدموع، وتعانق أعداء الأمس، وعاش الجميع بعدها، بفضل غباء الأرجواني وبلاغته، في سلام تامّ وأمان.
أمّا الأرجواني، فقد نال على إثرها جائزة نوبل للسلام في حضرموت، وقد لقّب منذ ذلك اليوم بأبي الجائزتين، وعاد إلى حبيبته خنساء الوادي، ولم يتفارقا بعد ذلك قطّ.
من كتاب "نوادر الضجر في المترو الباريسي"، لأبي ساجة البيروتي، الجزء ٢، قريبا في الأسواق.
جداريّات رقميّة - 2
Comments
Post a Comment