بين كارلوس غصن وشوفينيتنا اللبنانية القاتلة




بعيدا عن الحيثيات القانونية للقضية، يشكّل توقيف كارلوس غصن في اليابان - في أحد أبعاده - ضربة للشوفينية اللبنانية. تقوم هذه الشوفينية على الاعتقاد بأن لبنان هو مركز الكون، وأنّه مكلّف، منذ قدموس، وإليسا، وما شاكلهما من أساطير فينيقية راسخة كحقائق غير قابلة للنقاش في اللاوعي الجماعي اللبناني، أي حتى قبل ظهور الديانات السماوية، مكلّف برسالة سماوية، مفادها نشر الحضارة حول العالم.

وعلى سبيل المثال، فقد جاء تعديل وزير خارجية لبنان - رئيس التيار الوطني الحرّ وصهر رئيس الجمهورية - جبران باسيل، اسم وزارته، بمرسوم في أيار/مايو الماضي، من "وزارة الخارجية والمغتربين"، إلى "وزارة الخارجية والمنتشرين والتعاون الدولي"، كتكريس رسمي لهذا الاعتقاد  (doxa)، وكتبنّ من قبل الدولة اللبنانية، في عهد الرئيس ميشال عون، لهذه الإيديولوجيا الإتنوسانتريّة  (ethnocentrisme)، التي لا تخلو من مرتكزات الفوقية القومية (اللبنانية)، والعنصرية، والشعبوية.

 فكأنّ المقصود هو القول أنّ لبنان هو مركز العالم ورأس هرمه، الذي يشعّ منه نور الحضارة والثقافة والمعرفة والابداع على باقي بلاد المعمورة، وأنّ هذا الإشعاع الحضاري يتمّ بواسطة انتشار أبنائه المهاجرين؛ في حين أنهم، في الواقع، غالبا ما يضطرّون إلى مغادرته هربا من حرب، أو من مجاعة (الحرب العالمية الأولى)، أو من أوضاع معيشية صعبة.

وللمفارقة، فإنّ الذين يتبنّون هذا الفكر- إن جاز تسميته بالفكر – الشوفيني في لبنان، هم غالبا من لا يتردّدون في التعبير عن عنصريتهم تجاه محيطهم العربي، وتجاه اللاجئين العرب في لبنان، لا سيما الفلسطينيين والسوريين، مستجرّين بذلك عنصرية مضادة وجحود تجاه لبنان وشعبه المضياف. 

لعلّ المؤرخ اللبناني كمال صليبي هو أفضل من شرّح، بمنهجيته العلمية الدقيقة، الأسس الفكرية التي تقوم عليها الشوفينية اللبنانية، ونقدها، وعرّاها، لا سيما في كتابه المترجم عن الإنجليزية: "بيت بمنازل كثيرة، الكيان اللبناني بين التصوّر والواقع".

ولطالما كان اللبناني البرازيلي الفرنسي، كارلوس غصن، من مصادر التفاخر الأولى لدى منظّري الأنا اللبناني المتورّم، وكتّابه، ومريديه، لما تقدّمه نجاحات غصن الكبيرة في عالم صناعة السيارات، لا سيما بين فرنسا واليابان، من حجج، ولو ركيكة، لتدعيم نظرياتهم.  

شكّل سقوط غصن انتكاسة كبيرة لهؤلاء. تعرّض الأنا اللبناني المتورّم لديهم لزلزال. اشرأبّت أعناقهم. أعلنوا حال الطوارئ. شرعوا يهرولون يمينا ويسارا لدعم بطلهم القومي. أمطروا الصحف، ووسائل الإعلام الأخرى، ووسائل التواصل الاجتماعي، بوابل من الكتابات التي تدافع دفاعا مستميتا عن كارلوس غصن. غابت لديهم الحجج القانونية المقنعة. فحضرت نظرية المؤامرة (مؤامرة كونية ضد غصن) لتكون حليفهم الأوّل. أنكروا على الآخرين حقّهم في معرفة الحقيقة والمطالبة بجلائها في هذه القضية. استكثروا على الآخرين أنهم تجرّأوا على التعبير عن إعجابهم بالنظام القضائي والاجرائي في اليابان. رفضوا حتى مطالبة الآخرين بإطلاق سراح غصن بأسرع وقت في حال تبيّن، بعد التحقيق معه، أنّه بريء من الأفعال الجرمية المنسوبة إليه. كلّ ذلك ممنوع لأنه، بنظرهم، خيانة قومية باب أوّل للبنان الإشعاع الحضاري والنور الثقافي. كارلوس غصن بريء! لا حاجة إلى أي تحقيق في الأمر! الأمر لا يحتمل المزاح! فالأمر يقوم عليه بناء نظري خيالي بطوله وعرضه، تنهل منه الأجيال على مر العقود، انهار بلحظة، حتى لو لم تكن المرّة الأولى التي ينهار فيها!

وفي هذا السياق، لعل أهم ما ظهّرته قضية توقيف كارلوس غصن، أنّ دولة القانون والمؤسسات هي أولا ثقافة قبل أي شيء آخر، وهي ثقافة نفتقدها في لبنان. للمفارقة، فإنّ الذين ينكرون على اليابان حقّه في التحقيق مع غصن، هم، في أغلب الأحيان، أنفسهم الذين لا يكفّون عن التباكي من الفساد في لبنان، والنقّ من غياب العدل فيه، والاشتكاء من نظامه القضائي، لا سيما من المحسوبيات، و"التزبيطات" (الترتيبات) الاجرائية، ومن المعاملة المتميّزة التي يحظى بها كبار القوم في لبنان دون سواهم.

لم يكتف هؤلاء بعدم الثني على نظام قضائي يتمنّونه ليل نهار، أي النظام القضائي الياباني، حيث يعامل كارلوس غصن كأي موقوف آخر، دون أي تمايز نظرا لوضعه الوظيفي أو المالي؛ أي حيث المساواة امام القانون، لا سيما قانون أصول المحاكمات الجزائية، ليست مجرد شعار، بل هي مطبّقة بشكل جلي وملموس على أرض الواقع. بدل كل ذلك، أخذ هؤلاء يطالبون بضرورة أن يعامل غصن بطريقة مختلفة عن باقي الموقوفين، نظرا لأهمية شخصه وللخدمات التي قدّمها لليابان، وهو ما يخالف أبسط قواعد العدالة التي يجب أن تكون مجرّدة من كل تلك الاعتبارات الشخصية، وما يحتوي على قدر كبير من الذهنية القبلية (كما عرّفها أيضا كمال صليبي في كتابه المذكور آنفا)، إذ لا يجوز بنظرهم المسّ بأحد أفراد القبيلة اللبنانية، أو بالأحرى أحد أفراد إحدى القبائل الطائفية اللبنانية، أو اتّهامه تحت أي مسوّغ، لا سيما إن كان من كبار تلك القبيلة.  

وللمفارقة أيضا، فإن فورة الشوفينية هذه تترافق مع ذكرى عيد استقلال لبنان الواقع في 22 تشرين الثاني/نوفمبر، مع ما يرافق الذكرى من خطابات رنّانة، وشعارات فارغة من أي مضمون جدي، وهوبرات سطحية، ونفخ سخيف في الشوفينية اللبنانية المبنية على التكاذب، وانفلاش العنصريات المتسترة وراء أضغاث أحلام اليقظة، التي ما زالت تصوّر لبنان بكثير من الكذب، كقطعة من الجنة على الأرض حيث يعمّ التآلف والوئام، رغم الوضع السياسي والاقتصادي والمالي المأساوي الذي يعاني منه منذ سنوات، وفي ظل عدم تمكن سياسييه من تشكيل حكومة منذ أكثر من ستة أشهر.  

إنّ حب الوطن يكون اولا بقول الحقيقة، كاملة، مهما كانت مرة، وبتحرّيها، إن كان بشؤون لبنان، أو بقضايا أبنائه، في الداخل أو في المهجر، حتى - لا بل خصوصا - إن لم تكن هذه الحقيقة تخدم تورّم الأنا الجماعي اللبناني. حب الوطن الحقيقي يقوم على تربية الأجيال على هذه الحقيقة، كي تنطلق الأجيال الصاعدة من حقيقة واقعها، ولو كان مرّا، بنظرة متواضعة وواقعية ومنفتحة على الآخر، لا متعالية عليه، نحو بناء وطن حر، سيد، مستقل بالفعل لا بالخطابات؛ وطن حقيقي يليق بها، وتليق به.

Comments