اليمين الشعبوي الحاكم يكشّر عن أنيابه في لبنان


 إعتقدت القوى الحزبية الأساسية فيما كان يعرف بتحالف 14 آذار أنّ التسوية السياسية التي قامت بها والتي أوصلت، في  2016، مرشح قوى 8 آذار - العماد ميشال عون - الى رئاسة الجمهورية، كفيلة بتغيير السلوك السياسي لتياره. تم التسويق للتسوية، من قبل فريق الحريري تحديدا، على أنّها قادرة على لجم جموح شعبوية التيار الوطني الحر، وتلطيف أدبياته اليمينية التي تستفز الطائفة السنية.

ولكن منذ بداية عهد الرئيس عون، تتالت الأحداث، بوتيرة تصاعدية، كي تؤكّد على فداحة الخطأ الذي ارتكبته قيادة تيار المستقبل، حتى انفجرت كل السجالات مرة واحدة في الأسبوع المنصرم بين طرفي التسوية الأساسيين، مترافقة مع عودة الخطاب الشعبوي  للتيار الوطني الحر ليطفو مجددا على السطح.

فجأة، استعرت الحملة التي يقودها التيار الوطني الحر ضد مدير القوى الأمن الداخلي - اللواء عثمان –، دون سواه من رؤساء الأجهزة الأمنية، متهمة إياه بالفساد، في حين أنه يتم تبرئة المقدم سوزان الحاج من تهمة تلفيق تهمة جنائية للفنان المسرحي زياد عيتاني، ولا يتم المس بأي ضابط من الجهاز الأمني الذي قام بالتحقيق الأولي مع عيتاني.

في كتابه "ما هي الشعبوية؟ تعريف الخطر أخيرا"(1)، الصادر بطبعته الفرنسية سنة 2016، والذي أضحى من أهم المراجع للإحاطة بهذا المفهوم، يحدّد الباحث الألماني يان- فيرنير مولر، معيارين أساسيين لتعريف الشعبوية. 

 يقوم الخطاب الشعبوي أولا على معاداة النخب. ولكن في نظر الشعبويين، الفاسد – الذي تنبغي مكافحته – هو ذاك النخبوي الآخر حصرا - ولو كان في الواقع غير فاسد - ودون المس باللاستبلشمنت (ومن ضمنه النخب الأمنية) المحسوب على الشعبويين أنفسهم. وهذا تماما ما يجري في الحملة الآنفة الذكر التي يشنها التيار الوطني الحر ضد اللواء عثمان.  

أمّا الأهمّ، فهو أنّ الباحث الألماني يضيف بأنّ اللاوعي السياسي لليمين الشعبوي تحديدا يحتوي، زيادة على باقي أنواع الحركات الشعبوية (اليسارية مثلا)، على فكرة أساسية قوامها أنّ هذه النخب الفاسدة تتحالف مع طبقات اجتماعية "دخيلة" ("طفيلية" بتعبير مولر) لا يمكن اعتبارها من الشعب "الحقيقي".

 وهنا، لا بدّ من التذكير بحديث الرئيس عون سنة 2007 - عندما كان ما زال نائبا - المنقول ضمن وثائق ويكيليكس، بأنّ "الشيعة في لبنان هم مثل الموارنة من طينة ملح الأرض، وأن الطائفتين يحبان الأرض وهذه هي الخطوة الأولى إلى حب الوطن، وأن السنّة غرباء ومن دون جذور ومن جنسيات مختلفة وعشاق مال ومتطرفين جدا". ففي اللاوعي السياسي لليمين الشعبوي اللبناني، النخب الفاسدة هي تحديدا تلك المنبثقة من طائفة "دخيلة" على التركيبة الحقيقية والأصلية للشعب اللبناني، وهي الطائفة السنية. ربما كان قد عفا الزمن عن هذا الحديث لو لم يعد التيار الوطني مؤخرا إلى هذه الأدبيات الشعبوية الفئوية، وقد ظهر ذلك مؤخرا بشكل أساسي في مناسبات ثلاث.

 أولها، حديث الوزير جبران باسيل عن أنّ "السنيّة السياسية أتت على جثة المارونية وسلبت كل حقوقها ومكتسباتها، ونحن نريد استعادتها منهم بشكل كامل". وقد مهّد باسيل لحديثه عن السنّة باستفزاز للدروز في عقر دارهم – الشوف – حيث اسغلّ قداس أقيم في دير القمر عن أرواح شهدائها، ليعيد نبش ذكريات حرب الجبل الأليمة (1983)، عائدا   بالذاكرة حتى أحداث 1860، ضاربا بعرض الحائط المصالحة التاريخية التي أرساها البطريرك الراحل صفير والزعيم الدرزي وليد جنبلاط سنة 2001.

 ثانيها، العودة إلى أبلسة الطائفة السنيّة، كبيئة حاضنة للإرهاب، بعد العملية الإرهابية التي هزت طرابلس عشية عيد الفطر، والتي راح ضحيتها أفراد من الجيش وقوى الأمن الداخلي، والعودة إلى نغمة اتهام تيار المستقبل بإيواء الارهابيين وتأمين التغطية القضائية لهم، لا سيما مسؤوليته عن اطلاق سراح منفذ العملية  بشكل مبكر من السجن في الماضي.  

أمّا ثالثها فهو خطاب الكزينوفوبيا، لا سيما العنصرية المستفحلة ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين، والتي أصبحت لازمة نثرية في أدبيات العهد، بل هاجسا لدى اليمين الشعبوي اللبناني، يرددها  
مسؤولوه بمناسبة وبدون مناسبة، في كل زمان ومكان، في الداخل والخارج، حتى أصبحت نوعا من الوسواس القهري الذي يصعب علاجه حتى على أبرع الأطباء النفسيين. 
   
وتترافق هذه العنصرية بجوقة من إعلام "خطر اللاجئين" - الذي لا يتبع بالضرورة مباشرة للعهد أو للتيار الوطني الحرّ - ذاك الإعلام الذي لا يكلّ عن تحريك فزاعة التوطين، ولا يملّ من النفخ في أبواق الطائفية، والكزينوفوبيا، وخصوصا كراهية اللاجئين، لا لشيء، فقط لأنهم من طائفة معينة. ذاك الإعلام الذي يعتبر انه حقق سبقا اعلاميا حين يكشف بعض أحجار حيطان مخبّأة تحت خيمة لاجئين لتقيهم صقيع البرد في البقاع، أو حين يصوّر بعض الخيم على ضفاف نهر من هنا أو على مجرى ساقية من هناك. ذاك الإعلام الذي يحرّض ليل نهار، متماشيا مع خطاب اليمين الشعبوي اللبناني، على ترحيل اللاجئين السوريين من لبنان، وعودتهم إلى سوريا، ضاربا بعرض الحائط القانون الدولي، لا سيما المواثيق والأعراف الدولية التي تحميهم، في حين تتوالى التقارير الحقوقية عن حالات التعذيب والاختفاء القسري التي يتعرض لها الكثير من اللاجئين السوريين العائدين إلى بلدهم.  

حتى كريمة رئيس الجمهورية، السيدة كلودين عون- روكز، رئيسة الهيأة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية، لم تنج من وابل من الانتقادات العنصرية والتجريح على تويتر، لأنها تجرّأت على تقديم مشروع قانون يتيح للأم اللبنانية نقل جنسيتها لأولادها. وقد أتت 
مجمل الردود من قبيل رفض أن يشمل هذا القانون أولاد الأم اللبنانية المتزوجة من فلسطيني أو سوري

ذلك في حين أنه  قام مثلا الشاب الفلسطيني صابر مراد، المولود من أم لبنانية، بعد أيام قليلة من تقديم مشروع القانون، باعتراض الإرهابي الذي نفذ عمليات طرابلس الآنفة الذكر، فاديا اللبنانيين بدمائه، إذ تلقى رصاصات في جسده تأتّى عنها إصابات بليغة، وهو يقوم بحركته الشجاعة، وفاضحا بذلك - من حيث لا يدري - عقم عنصرية خطاب اليمين الشعبوي الحاكم رسميا في لبنان، وسخافة طروحاته التحريضية ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين

أما معيار الشعبوية الثاني والأهمّ بحسب مولر، فهو اعتبار الشعبويين أنّهم وحدهم من يمثلون الشعب الحقيقي، وأنّ من سواهم ليسوا الا ممثلين غير شرعيين أو، في أحسن الأحوال، منتقصي الشرعية. إذا كنت مؤيدا للشعبويين، فأنت إنسان شريف وتمتلك كامل الشرعية الشعبية بنظرهم. أما إذا تجرأت على معارضتهم، فأنت فاسد ولا شرعية لك. وبهذا المعيار الثاني، تكونالشعبوية ليست فقط معادية للنخب، بل أيضا معادية للتعددية السياسية.

ففي أثناء أول جلسة لحكومة العهد الثانية في 21 شباط 2019، حين احتدّ النقاش مع وزراء القوات اللبنانية حول موضوع عودة النازحين السوريين، ما كان من الرئيس عون إلّا أن قال بحدية "أنا أعرف مصلحة لبنان العليا وأنا أحددها، وأنا في مركز المسؤولية وهذه صلاحياتي لأني الوحيد الذي أقسمت يمين الحفاظ على الدستور وقوانين الأمة وسلامة الأرض والشعب (...) وأنا مسؤول تجاه شعبي"، وبعدها ضرب على الطاولة بيده ورفع الجلسة.

 هذا ويتجلى رفض التعددية أيضا بالتضييق على حرية التعبير، وسياسة كم الأفواه المستفحلة ضد الصحافيين وناشطي مواقع الوسائل التواصل. لدرجة أنّ تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول تنفيذ القرار 1701، الصادر بتاريخ 15/11/2018، قد لحظ ذلك صراحة، منبها من مخاطر التعرّض لحرية التعبير على الحياة الديمقراطية في لبنان.

في سياق آخر، متعلّق بشكل الزعامة الشعبوية، فمنذ وصول عمّه لرئاسة الجمهورية، والوزير جبران باسيل  يتقمّص دور الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي. المقصود هنا تحديدا تلك الفترة الممتدة بين 7 أيار 2002 و26 آذار 2007 (تاريخ استقالته من وزارة الداخلية قبيل انتخابه رئيسا للجمهورية)، التي كان ما زال خلالها ساركوزي وزيرا في العهد الثاني للرئيس جاك شيراك، وقبل أن يخلف هذا الأخير في رئاسة الجمهورية.  

من جهة أولى، يتبع باسيل سياسة "مالئ الدنيا وشاغل الناس". تنتشر الباسيلومانيا بين مريديه، تماما كما انتشرت الساركومانيا   تدريجيا بين مؤيدي مثله الأعلى.

لكل يوم نصيبه من السجالات الجديدة. لكل يوم نصيبه من التهديد والوعيد. المهم أن يظهر باسيل يوميا في نشرة الأخبار. المهم أن يظل شاغلا الرأي العام بشخصه. المهم أن يبقى هو محور اهتمام اللبنانيين، ومحور حديث الناس. 

من جهة ثانية، يحاول باسيل أن يعيد مع الحريري ما فعله الوزير ساركوزي مع رئيس حكومته، دومينيك دو فيلبان. حاول ساركوزي حجب دوفيلبان وال"قوطبة" عليه عدة مرات، لا سيما أثناء هبّة الضواحي التي تسبب ساركوزي بنفسه بها في خريف 2005، وأثناء أزمة مشروع قانون عقود عمل الشباب، في ربيع 2006. أما باسيل فحاول القوطبة على الحريري في مشروع الموازنة الأخيرة، إذ استطاع فرض تأخير بت مشروع الموازنة وإعادة المناقشة في مسائل كانت قد بتّت سابقا. كما يحاول باسيل حجب رئيس الحكومة وموقعه من خلال فرض إيقاعه وخياراته لجهة التعيينات الادارية، وقد افتتحها بمعركة استبدال اللواء عثمان على رأس قوى الأمن الداخلي.

ولكن، حفظ باسيل شيئا من دور ساركوزي، وغابت عنه أشياء. فالوزير ساركوزي كان في وقتها يحاول إزعاج الرئيس شيراك، الذي كان يريد، بشتى الوسائل، منع وصوله لرئاسة الجمهورية من بعده. أمّا باسيل فأصبح يشكّل عبئا على العهد الذي هو أحد أعمدته، وكأنه يقصّ الجذع الذي يجلس عليه.  

وإذا كان ساركوزي قد استطاع أن يبني أمجاد شعبيته باستفزاز أبناء الضواحي في فرنسا بخطابه اليميني الشعبوي (كان يريد أن "يكنسهم بالكارشير")، فمخطئ باسيل إذا اعتقد أنه يستطيع أن يبني شعبيته، تمهيدا للانتخابات الرئاسية المقبلة، باستفزاز سنّة لبنان. فسنّة لبنان ليسوا أبناء "هوامش اجتماعية"، بل هم أبناء المدن الكبرى. وسنة لبنان ليسوا أقلية كما هي حال مسلمي فرنسا، بل هم إحدى الطوائف الكبرى التي لا مجال للوصول إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية دون نيل رضاها.

بالمحصلة، يبدو الحريري بموقع الضعف وتقديم التنازلات المستمرة. إلا أنه لا مناص من تأسيس معارضة وطنية ديمقراطية، ولو من دونه. معارضة من كل الطوائف اللبنانية، تقف بوجه اليمين الشعبوي الحاكم رسميا، وحليفه اليمين الثيوقراطي (حزب اللّه)، الحاكم فعليا من ورائه. معارضة تنقل القوى السيادية في لبنان من حالة الدفاع إلى الهجوم، ترفع الصوت ضد الاستئثار بالسلطة، وتطالب بحصرية السلاح بيد الدولة. معارضة سقفها الدستور، لا سيما أن لا شرعية لأي سلطة خارج العيش المشترك. معارضة عصرية تلتزم باحترام القانون الدولي وحقوق الانسان، وترفض عنصرية القرون الوسطى التي يغذيها خطاب اليمين الشعبوي الحاكم.

___________________________________
(1) Jan- Werner Müller, Qu’est- ce que le populisme. Définir enfin la menace, Premier parallèle, 2016

Comments