دولة الرئيس رفيق الحريري، كل الحق عليك




دولة الرئيس رفيق الحريري،

بعض الأحياء يسمعون جيدا ولا ينصتون،

وبعض الأموات، طبعا لا يسمعون، ولكنهم في سكينة دنيا الحق وسكونها، ينصتون.

بعد أكثر من 15 سنة على استشهادك، أكتب لك بعض الكلمات، ليس رثاء، ولا تحسرا، ولا وقوفا على أطلال بلد ينهار كليا، بل وضعا للنقاط على الحروف، وتحميلا للمسؤولية لما آلت إليه الأمور اليوم.

فكما نقول باللهجة اللبنانية، كل الحق عليك، دولة الرئيس.

نعم، كل الحق عليك. كيف لا، وأنت الذي استطاع بفترة وجيزة ـ أقل من 6 سنوات ـ النهوض بلبنان، وذلك بعد 15 سنة من حرب عبثية لم تبق ولم تذر، لا سيما آخر سنتين مشؤومتين منها (1989ـ1990) حين تولى قائد الجيش، العماد ميشال عون، رئاسة حكومة عسكرية مؤقتة، فشن"حرب التحرير" و"حرب الإلغاء" المدمرتين؛ وهو قد أصبح اليوم رئيسا للجمهورية، وفريقه أبرز من يقول أنّ كل الحق عليك، يا دولة الرئيس، فيما آلت إليه الأمور اليوم في لبنان.

كيف لا يكون كل الحق عليك في الكارثة التي وصل إليها لبنان اليوم، وقد استطاعت حكوماتك بفترة قياسية تخفيض الدولار إلى 1500 ليرة لبنانية بعد أن كان لامس ال 3000 ليرة قبل مجيئك إلى الحكم سنة 1992، في حين أنّ الدولار ذاته قد أصبح اليوم على عتبة ال5000 ليرة، وربما أكثر.. ريثما الانتهاء من كتابة هذه السطور.

كيف لا يكون كل الحق عليك وعلى الحريرية السياسية، وقد كان اللبنانيون في تلك الأيام التي استلمت فيها رئاسة مجلس الوزراء، ينامون على حفر ضخمة بين المناطق، ثم يستيقظون على أساسات عملاقة لأنفاق، وجسور، وطرقات، وأبنية، ومدن رياضية، وغيرها من البنى التحتية التي استطاعت مثلا حكوماتك، بفضلها، تأمين الكهرباء ل24 ساعة يوميا، وهو إنجاز يبدو اليوم من المستحيلات، وذلك بالرغم من كل الإنفاق على هذا القطاع الذي استلمه فريق رئيس الجمهورية الحالي لسنوات وسنوات، والذي أضحى يشكّل السبب الأول في عجز الدولة المالي وإفلاسها.

كيف لا يكون كل الحق عليك، وقد أعدت ترميم السراي الحكومي، تماشيا مع أهمية مركز رئاسة مجلس الوزراء والصلاحيات الموكلة إليها دستوريا، وذلك بعد الدمار الكبير الذي لحق به أثناء سني الحرب الأهلية، لا سيما أنه كان على خط تماس بين ما أرادوه بيروتين؛ وقد تحول السراي اليوم، بعد 15 سنة على رحيلك، إلى مقر للسكن الشخصي يقطنه رئيس حكومة يفرّط بالسراي وبالمركز وبالصلاحيات، وذلك بالرضوخ مثلا إلى إرادة رئيس الجمهورية وصهره في إنشاء معمل سلعاتا لتوليد الطاقة الكهربائية، وهو معمل ـ بإجماع الخبراء ـ يفتقد إلى الجدوى الاقتصادية، ناهيك عن التعيينات الإدارية التي حصد فيها فريق رئيس الجمهورية حصة الأسد، على حساب تهميش بعض الطوائف، لا سيما الطائفة السنية.

كيف لا يكون كل الحق عليك، وقد استطعت نيل ثقة ناخبيك مرارا، لا سيما في انتخابات سنة 2000 النيابية، وذلك بالرغم من أعتى حملة إعلامية، لا سيما بواسطة تلفزيون لبنان، تلك الحملة التي حركتها نفس الكراهية وأرفدها نفس الحقد اللذان يحرضان اليوم على قتل المتظاهرين من "الشبابيك".

كيف لا يكون كل الحق عليك وقد حاولت جاهدا حث جميع الطوائف والقوى السياسية على المشاركة في حكوماتك، وفي سياسة إعادة الإعمار والنهوض بالبلد التي انتهجتها، كيف لا وقد اعتكفت مرارا من أجل ذلك، في رسالة واضحة كنت توجهها بين الفينة والأخرى للنظام السوري الذي كان جيشه يحتل لبنان، ويضع فيتو على مشاركة الأحزاب المسيحية الفاعلة.

كيف لا يكون كل الحق عليك أنت الذي جلت بلدان العالم سنة 1996 للتوصل إلى تفاهم نيسان، ذاك التفاهم الدولي الذي شرّع مقاومة حزب اللّه للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، نعم حزب اللّه الذي كان عندها مقاومة ترفع لها القبعة في كل بيت وعند كل خفقة فؤاد، حزب اللّه نفسه الذي اجتاح بيروتك بعد رحيلك بثلاث سنوات، حزب اللّه نفسه الذي يرفض تسليم متهمين باغتيالك ويعتبرهم من "القديسين"، حزب اللّه نفسه الذي ذهب لقتال الشعب السوري ونصرة الطاغية الذي هدّدك في قصره قبل شهور قليلة من استشهادك.

كيف لا يكون كل الحق عليك وأنت الذي خرجت بالطائفة السنية إلى الفضاء العربي الرحب وإلى العالمية، في حين أنّ كثيرين كانوا وما زالوا يريدونها متقوقعة، متزمتة، مرتجفة، خائفة، أي على صورة حلف الأقليات الذي ينخرطون فيه، وتبريرا له، أو البعض الآخر ـ من داخلها ـ الذين يريدونها مجرد مرتع عائلي للأخوين اللدودين، وساحة تنافس شعبوي لتصفية الحسابات السخيفة بينهما، ومطية للوصول إلى السلطة.

كيف لا يكون الحق عليك وقد عملت على انفتاح لبنان على محيطه العربي وعلى العالم أجمع، وأرسيت أفضل العلاقات مع دول الخليج العربي والدول الأوروبية، لا سيما فرنسا، في حين أنّ لبنان أصبح اليوم منبوذا من محيطه ومن العالم، اللّهمّ إلا من قادة اليمين المتطرف الأوروبي الذين يعرّجون على بعبدا وهم في طريقهم إلى قبلتهم، قصر المهاجرين.

نعم، كل الحق عليك. كيف لا وأنت بالنسبة لكثير من اللبنانيين ـ ومن جملتهم كاتب هذه السطور ـ، كجمال عبد الناصر بالنسبة لأمين معلوف، الذي يروي في كتابه الأخير "غرق الحضارات" كيف كانت تختلجه مشاعر متناقضة من الرئيس المصري.

كل الحق عليك لأنك استطعت، رغم الأخطاء الكثيرة ـ ومن لا يعمل لا يخطئ ـ، وكل المصاعب التي عانيناها كلبنانيين في تلك الفترة التي استلمت فيها الحكم، ورغم الإجحاف الذي لحق بكثير منا في تلك المرحلة، استطعت أن ترينا أنّ الفشل ليس قدرا للبنان، ثم ذهبت لقدرك.

كل الحق عليك لأنك استطعت أن تفتح كوة رجاء امتدت حوالي 15 عاما (1992ـ 2005) أغيث فيها الناس ولو لحد معين، كوة رجاء في وسط زمن الألم والمرارة الذي كان اللبنانيون قد اعتادوا عليه ل15 سنة عجاف سبقت (1975ـ 1990)، والذي كان ينتظرهم ل15 سنة عجاف أخر تلت استشهادك (2005ـ 2020)

كل الحق عليك لأنك، في عز الدمار، والخراب، ونزعات الموت التي كانت قد أوشكت ـ وتوشك اليوم مرة أخرى ـ أن تصبح مرادفة للبنان، نجحت في إحياء الأمل بالحياة فينا من جديد. ثم رحلت.

أرأيت الآن لماذا الحق، كل الحق، عليك؟

Comments