ماكرون، ساحر الأوهام على ضفتي المتوسط

 


مقال نشره موقع عربي بوست في 2 أيلول 2020.

في ٤ آب الماضي، قيل له ان انفجارا مهولا قد وقع في مرفأ بيروت. أرسل على الفور بوارجه الحربية إلى مكان الانفجار. بعد يومين، أخذ طائرته الرئاسية الفرنسية وهبط في مطار رفيق الحريري الدولي، حاملا معه وعودا بالتغيير. قام بزيارة الأحياء المنكوبة في بيروت. استقبل من الشعب استقبال الفاتحين. جمع الطبقة السياسية اللبنانية في قصر الصنوبر حيث كان قد أعلن، في أوّل أيلول 1920، قيام دولة لبنان الكبير. وبّخهم. أنّبهم. زجرهم. عنّفهم لفظيا. أسمعهم نقدا لاذعا ومباشرا. حثهم على العمل، على الإصلاح، على محاربة الفساد، على إيجاد الحلول السياسية والاقتصادية والمالية للأزمات اللبنانية المستفحلة. خرجوا من الاجتماع وكأنّ على رؤوسهم الطير. عقد مؤتمره الصحافي. رفع من معنويات اللبنانيين. سبيله إلى ذلك: الوعود. وعد اللبنانيين بعدم مساعدة الطبقة السياسية، وبالضغط عليها من أجل التغيير، وذلك قبل تقديم أي مساعدات كان قد أقرها مؤتمر سيدر إلى لبنان. ثم غادر. إلى اللقاء بعد شهر.

صدّقه الشعب اللبناني. لكن، بعد أقل من شهر، لم تأت حسابات الحقل مطابقة لحسابات البيدر. خلال هذا الشهر، فهمت الطبقة السياسية سريعا، خصوصا رئيس مجلس النواب نبيه بري، أنه لا بد من كبش فداء تقدمه هذه الطبقة لامتصاص نقمة الشعب، ولاستيعاب غضب المجتمع الدولي، لا سيما بعد انفجار الرابع من آب، والتقصير الهائل الذي بيّنه. فكانت استقالة حكومة حسان دياب بدل استقالة المجلس النيابي؛ حسان دياب، تلك الشخصية المغمورة في بيئتها، التي أتت بها قوى ما كان يعرف بالثامن من اذار (بقيادة حزب اللّه) لرئاسة الحكومة منذ بضعة أشهر خلت.

في ٣١ آب، حضّرت له دوائر الإليزيه من جديد حقيبة الأوهام. ارتدى بدلة عروض سحر السيرك الديبلوماسي. استقل طائرته الرئاسية وعاد مرة أخرى إلى لبنان، ولكن هذه المرة على وقع توافق، حصل بسحر ساحر قبل سويعات من وصوله إلى بلاد الأرز، وبوساطة هاتفية مباشرة منه شخصيا تلامس حد الفجاجة في العلاقات الدولية، بين أركان الطبقة السياسية اللبنانية، حول تكليف شخصية مغمورة أخرى وغير معروفة في بيئتها (الطائفة السنية) لرئاسة الحكومة (سفير لبنان في ألمانيا المتأهل من سيدة فرنسية، مصطفى أديب).

خرج ساحر الأوهام من الطائرة. ها قد عدت يا شعب لبنان! ها أناذا منقذكم من ضلال حكامكم! أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا، متى أضع "الكمّامة" تعرفوني. هلموا، استقبلوني. تعالوا، عانقوني. أعدكم بالنصر على الطبقة السياسية. أعدكم بالبحبوحة. أعدكم بمعاقبة حكامكم ومساعدتكم على التخلص منهم. أعدكم، تماما كما أغدقت بالوعود على شعبي في فرنسا. وعود. نعم، اختصاصي الوعود. في السياسة والاقتصاد، في المال والثقافة، في البطالة والتقاعد، في الغرب والشرق. وعود. هيا أقبلوا، من يريد منكم أيها اللبنانيون أن يشتري بعضا من وعودي؟ وعودي وردية. وعودي جذابة كوردة جورية. وعودي تسحر ضفتي المتوسط كأغنية حورية. اسألوا شعبي عنها، على الجهة الاخرى من البحر. اسألوا السترات الصفر، فهم خير من يخبركم عن وعودي.

عاد ساحر الأوهام مبدئيا للاحتفال بمئوية قيام دولة لبنان الكبير. لكنه عاد فعليا للاحتفال بإعادة تعويمه، بفعل تسمية مصطفى أديب، للطبقة السياسية في لبنان. عاد عمليا للاحتفال مع هذه الطبقة السياسية، خلال غداء أقيم على شرفه في قصر بعبدا، بالصفقة الجديدة التي يراهن أركان السلطة في لبنان على تجديد شبابهم السياسي من خلالها، وذلك حتى لو يبدو جليا للقاصي والداني أنّ شباب هذه الطبقة السياسية لن يعود يوما، وذلك رغم مكابرة أركانها ومحاولاتهم المستيمة للبقاء في السلطة. عاد للاحتفاء بهذه الصفقة الجديدة التي لا تخلو من أوجه الشبه مع سابقتها المشؤومة التي كان قد عقدها أركان الطبقة السياسية اللبنانية فيما بينهم في خريف 2016، أي قبيل انتخاب العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية.

فبعد أن كان محشورا بفعل الغضب الشعبي العارم إثر انفجار الرابع من آب ومقاطعا من الجميع، ها هو العهد يتنفّس الصعداء، ويتبسّم ضاحكا من جديد. ها هم أنصاره، الذين كانوا أشد المعترضين على الزيارة الأولى التي قام بها ماكرون في السادس من آب الماضي، يهللون على وسائل التواصل فرحين بالزيارة الثانية التي يقوم بها الرئيس الفرنسي نفسه في أوائل أيلول، لا سيما بعد أن جرت الرياح الفرنسية بما تشتهيه سفنهم بين الزيارتين. ها هم رؤساء الحكومة السابقون يعرّمون بثقة وارتياح أمام الكاميرات من جديد، وذلك بعد أن استطاع أحدهم (نجيب ميقاتي) فرض مرشحه ومستشاره السابق في رئاسة الحكومة، وبعد أن اطمأنّ الباقون أنّه تمّ تأجيل نهايتهم السياسية إلى أجل معيّن، خصوصا كبيرهم الذي كانت قد توالت الفيتوات عليه من السعودية.

أمّا الرابح الأكبر، حزب اللّه، فقد تمّ تشريع بقائه في السلطة من جديد من قبل دولة أوروبية ذات وزن، لا سيما بعد أن كان هو أيضا مزروكا في خانة الاتهام بعد انفجار المرفأ، وبعد صدور الحكم باغتيال رفيق الحريري. لم يخف أمينه العام، حسن نصر اللّه، في خطاباته الأخيرة، امتنانه تجاه الفرنسيين، لا سيما لرئيسهم، ساحر الأوهام، عندما أدرك نصر اللّه أنه بفعل انفتاح فرنسا على الحوار معه، بالإضافة إلى تزكيتها صفقة سياسية جديدة بين أركان السلطة اللبنانية هو شريك أساسي فيها، سوف يبقى تنظيمه المسلح ممسكا عمليا بزمام الأمور في لبنان.

أما الخاسر الأكبر، فيبقى الشعب اللبناني الذي كان يراهن على ماكرون من أجل مساعدته على التخلص من الطبقة السياسية، من تحالف الفساد والسلاح الذي أفلس لبنان، ودمّره، وقتل أحلام أبنائه. لم يفهم ساحر الأوهام أنّ اللبنانيين يصعب خداعهم بعد كل ما مر عليهم. لم يفهم ايمانويل ماكرون أنّ اللبنانيين بمعظمهم لا يريدون استبدال وصاية بوصاية أخرى بعد اليوم، وأنّ الشعب اللبناني بأكثريته الكبيرة أصبح يرفض أن يتمّ استعمال لبنان كورقة بيد أي كان، لا سيما بيد فرنسا للضغط على تركيا، أو للمقايضة مع إيران. لم يدرك ماكرون أنّ اللبنانيين قد سئموا من أن يكونوا ساحة صراع للغير، وأنّه لم تعد تعنيهم النزاعات الإقليمية، لا سيما صراع الرئيس الفرنسي مع الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان في شرق المتوسط. لم يستوعب ماكرون أن اللبنانيين لا يريدون أن يكون بلدهم مجرد قارب نجاة في شرق المتوسط يستعمله ماكرون كي يتمكّن من النجاة من فشله في ليبيا، وإعادة تعديل موازين القوى لصالحه في وجه أردوغان.

لم يفهم الرئيس الفرنسي أنّ الشعب اللبناني قد سئم أن يكون مجرد ورقة مقايضة مع إيران، لا سيما في وكالة ماكرون التفاوضية عن أميركا اليوم. تناسى ماكرون أنّ الشعب اللبناني قد ضاق ذرعا بكل المحاولات لتحويل لبنان إلى ساحة اختبار لإعادة تجريب المجرب في التفاوض مع إيران، لا سيما في إعادة تدوير نظريات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما البائدة، والقائمة على تقديم التنازل تلو التنازل لإيران، غالبا من جعبة غيره وعلى ظهر مصالح غيره (لبنان مثلا) في سبيل رهانه على تغيير النظام الايراني لسلوكه يوما ما.

يبدو أنّ ماكرون لم يفهم أنّ اللبنانيين الذين انتفضوا في 17 تشرين الأول الماضي يريدون بناء دولة حرة، سيدة، مستقلة، لا تكون تابعة لا لفرنسا، ولا لتركيا، ولا لإيران، ولا لأميركا، ولا لسوريا، ولا للسعودية، ولا لأي دولة أخرى. ربما أكثر ما لم يفهمه ساحر الأوهام الفرنسي، أنه بعرضه القوي ولكن غير الممتع في لبنان، قد أوقع نفسه في الرمال المتحركة اللبنانية، تلك الوحول التي سبق أن أغرقت وابتلعت من هو أكبر منه بكثير.

غابت عن ساحرنا كل هذه الأشياء، فأكمل في سياقه الوهمي، مفضلا استبدال ما لم يدركه بزيارة للسيدة فيروز. فيروز، التي رغم أنها تحتل مكانة مميزة في قلب كل لبناني بل وكل عربي، إلا أنّ فنها، لا سيما الأعمال المسرحية التي شاركت في بطولتها، لا تخلو أيضا من تسويق للأوهام (الفانتازم) حول لبنان متخيّل ورائع لم يكن موجودا ولا في أي يوم من الأيام. فيروز، التي لا تخلو أعمالها، على روعتها، من الصور النمطية عن لبنان، ومن الشوفينية اللبنانية، والكثير من الديماغوجية والشعبوية، وكلها ضروب من بيع الأوهام. وبالمناسبة، هذا ما كان قد دفع ابنها الفنان زياد الرحباني، في بداية الثمانينيات، على انتقاد هذا "التراث" الرحباني، الذي صنعه والداه وعمه، بشكل صريح ومباشر وشجاع ولاذع، في إحدى أروع مسرحياته، "شي فاشل".

إلا أنه يبقى فرق شاسع بين الوهم في أعمال فيروز والوهم في أعمال ماكرون، وهو فرق بكبر الاختلاف بين الفن والسياسة. ففيروز لا تلام كثيرا على تسويقها لوهم لبنان الحلم، وذلك لأن الدورالأساسي للفن يبقى تحريك الأحلام في نفوس المتلقين. هذا الوهم ينبع من نية طيبة لدى الرحابنة في توحيد اللبنانيين حول لاوعي جماعي واحد، قوامه أمل بلبنان جميل لكل أبنائه. هذا بالإضافة إلى أنّ هذا الفانتازم بلبنان الرائع، الذي يفنّطه المؤرخ الكبير كمال الصليبي في كتابه "بيت بمنازل كثيرة"، يبقى مسرحه، في حالة فيروز والرحابنة، خشبة وبعض الستائر الحمراء. أما الوهم الذي يبيعه ماكرون للشعب اللبناني، فهو وهم سياسي، مسرحه حياة اللبنانيين، ومعيشتهم، وأمنهم، وقوتهم اليومي، ومستقبل أبنائهم في ظل طبقة سياسية عوّمها ماكرون رغم وعوده المعاكسة، وهو وهم لا مجال لمقارنة خطورة تداعياته مع أي وهم فنّي، أو التسامح معه.

وعليه، ربما يمكن للشعب اللبناني أن يقول للطبقة الحاكمة: لكم ماكرونكم، ولنا فيروزنا.

Comments