فرنسا مع ماكرون، من علمانية الانفتاح على الآخر إلى رأس حربة صراع الحضارات في العالم

 


محزن اليوم هو مشهد فرنسا في العالم، لا سيما من هنا، من قلبها النابض، العاصمة باريس، لا سيما لمن يحبها، لا سيما لمن اعتاد على العيش فيها لفترة طويلة، لا سيما لمن يتعلّق بالمخزون الثقافي والعلمي والحضاري المتراكم في مجتمعها، في جامعاتها، في أساتذتها ومثقفيها، في معاهد البحث وإنتاج المعرفة والثقافة فيها، في مسارحها ودور السينما ومقاهيها، في شوارع مدنها العريقة العابقة بتاريخ أمة صدّرت الكثير من المعرفة والمبادئ الانسانية إلى العالم، وذلك بالرغم من كل التحفظات على مراحل كثيرة من هذا التاريخ وأوجهه. 

 

محزن اليوم هو مشهد فرنسا في العالم، هذه الدولة التي كانت في يوم من الأيام فرنسا شارل ديغول، الرئيس الذي كان شديد التعلّق بمبدأ التميّز عن حليفته الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما بانتهاجه "سياسة فرنسا العربية" القائمة على التقرب من الدول والشعوب العربية وبدعم قضاياها العادلة، خصوصا القضية الفلسطينية،

 

محزن اليوم هو مشهد فرنسا في العالم، الدولة التي كانت، في ماض غير بعيد بتاتا، فرنسا جاك شيراك التي تجرّأت على الوقوف بوجه جورج بوش الابن وسياسة صراع الحضارات الكارثية التي أطلقها، فرنسا التي كانت ترفض النظر بنظرة مانوية محدودة سخيفة للإسلام؛ هي نفسها التي كانت فرنسا دومينيك دو فيلبان، ذاك وزير الخارجية المتميّز، الديبلوماسي المحترف الذي ألهب العالم حماسة بخطابه التاريخي قبيل أن يضع فيتو بلاده ضد اجتياح العراق، بشجاعة قل نظيرها، في مجلس الأمن الدولي سنة 2003.

 

محزن اليوم هو مشهد فرنسا، التي كانت حتى ماض قريب جدا دولة قوية ومحترمة في العالم أجمع، لا سيما في العالمين العربي والإسلامي، خصوصا بفضل انتهاجها سياسة الانفتاح على الآخرين وحوار الحضارات، وذلك في خضم حفلة الجنون والكراهية التي انطلقت منذ ال2001 على أقل تقدير.

 

كم هو محزن بعد كل هذا التاريخ المعاصر المشرف أن تتحول فرنسا اليوم، مع إيمانويل ماكرون، من دولة علمانية منفتحة على العالم، لا سيما على العالمين العربي والإسلامي، إلى مجرد رأس حربة لصراع الحضارات، دولة تتقوقع ثقافيا على نفسها بذريعة علمانية "محوّرة" ـ بحسب تعبير المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي جان بوبيرو في كتابه "العلمانية المحوّرة" الصادر سنة 2012 ـ، علمانية أصبحت مجرد مطية للتمييز العنصري ضد المسلمين.

 

محزن هو مشهد فرنسا اليوم وهي تبدو بمظهر تلك العجوز المتعجرفة المريضة التي تشعر بالمرارة بعد أن سبقها الزمن وخانتها قواها، لا سيما امام من كانت تستعمرهم، فتلجأ إلى الحنين إلى تاريخها، لاسيما إلى الحقبات السوداوية فيه، لا لشيء، فقط لتشعر من جديد ولو بالقليل من قوتها البائدة،

 

محزن هو مشهد فرنسا كدولة ماضوية تنظر بتحسر إلى الخلف، وكأنها تحاول استعادة أمجادها البائدة، دولة تعتقد انها ما زالت قوة عظمى تستطيع تغيير خرائط العالم بشحطة قلم من جورج بيكو، وأن تتقاسم مناطق النفوذ والبلدان وخيراتها، وأن تقرر مصير الشعوب بالنيابة عنها،

 

دولة تحاول بكثير من التخبط والعبثية اجترار تاريخ عدائها للعرب والمسلمين الذي لا يبدأ بهزيمتها في حطّين أمام صلاح الدين، ولا ينتهي بخروجها المخزي من الجزائر صاغرة امام ثورة المليون شهيد، مرورا بانتصارها المشؤوم في ميسلون امام استبسال يوسف العظمة وحفنة من المقاومين.

 

محزن هو مشهد فرنسا التي عادت تبدو اليوم، لا سيما بفعل جنوح قادتها والجزء الأكبر من أحزابها السياسية نحو خطاب يميني متطرّف، كمن تحنّ بكثير من الأسى واللوعة إلى القائدين الصليبيين بوهيموند الأول وغي دو لوسنيان، وبعدهم بعدة قرون الجنرال غورو ومقولته الحاقدة الشهيرة التي من المرجح أن يكون قد أطلقها بعد ميسلون: "ها قد عدنا يا صلاح الدين!"

 

محزن اليوم هو مشهد هذه الدولة التي يعتقد رئيسها أنه يستطيع ان يتنطّح ويقول انّ الإسلام في أزمة، في كثير من التعميم المجحف وخلط للأمور، فحتى لو سلمنا جدلا أنّ الإسلام في أزمة كما يعتبر الكثير من الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين قبل غيرهم، فليس لرئيس دولة لها باع تاريخي طويل في العداء للإسلام والمسلمين، لا سيما في استعمار الشعوب المسلمة، أن يضع نفسه بموضع الديّان على ديانة يتبعها ما يقارب الملياري انسان في العالم؛ فما الفرق بعد ذلك بينه وبين نيكولا ساركوزي، سيّء الذكر، الذي كان تنطّح بقوله، بكثير من العنصرية ضد السود، في خطاب ألقاه في داكار، عاصمة السنيغال، سنة 2007، أنّ "الانسان الإفريقي لم يدخل التاريخ بشكل كاف"، والذي أثار موجة من الإدانات في فرنسا والعالم ؟

 

محزن هو مشهد هذه الدولة التي يعتقد سياسيوها أنهم يستطيعون التوجه إلى ملياري مسلم في العالم باللهجة الاستعلائية نفسها التي يتوجهون بها إلى حوالي ال5 مليون من رعاياها من المسلمين الفرنسيين، هذه الدولة التي تعتقد وزارة خارجيتها انه بإمكانها أن تأمر ملياري مسلم، يعيشون في دول لها سيادتها، عن "التوقف فورا" عن مقاطعة البضائع الفرنسية في العالم، وإلا، في حال لم يتوقفوا، فيكونون من المتطرفين الإرهابيين، وذلك في لهجة نيوكولونيالية مقيتة ملؤها العجرفة والخلط التعسفي للأمور والوقائع والمفاهيم، وتصرف أقل ما يقال فيه انه تصرف أخرق لهواة غير محترفين، ومخالفة واضحة لأبسط مبادئ العلاقات والقانون الدوليين ولقواعد التخاطب الديبلوماسي والاحترام بين الدول والشعوب،

 

هذه الدولة التي يعتقد سياسيوها وإعلاميوها، بالإضافة إلى أدواتهم من بعض المثقفين والإعلاميين في العالمين العربي والإسلامي، أنهم يستطيعون، بفكر مانوي ومحدود وسخيف، ممارسة الابتزاز الأخلاقي لملياري مسلم بأن يقبلوا مجبرين بالكاريكاتورات المسيئة إلى الرسول، وإلا كانوا بنظر هذه الطبقة السياسيةـ الإعلامية الفرنسية من الإرهابيين ومن حواضنهم، وذلك بالرغم من الإدانات الواضحة والصريحة دون تحفّظ التي صدرت من مسلمي فرنسا والعالم للجريمة النكراء والوحشية التي أودت بحياة المدرس الفرنسي سامويل باتي، هذه الجريمة البشعة التي لا يمكن أن يبررها أي دين ولا أي قانون.

 

محزن اليوم هو مشهد فرنسا في العالم، مشهد دولة يعتقد اعلامها أنه يستطيع نعت ملياري مسلم بالمنافقين المرائين، لا لشيء، فقط لأنهم قرروا مقاطعة البضائع الفرنسية ردا على تبني الدولة الفرنسية للكاريكاتورات المسيئة للرسول، تبنّي تجلى بطبع هذه الكاريكاتورات في كتيّب يوزّع على تلاميذ المدارس، وبعرضها على جدران البلديات وغيرها من المقرات الرسمية.

 

محزن هو مشهد دولة إعلامها والكثير من سياسييها غير قادرين حتى على فهم حقيقة بسيطة قوامها أنّ لكل حضارة من حضارات العالم مبادؤها الخاصة وقيمها، وأن القيم التي تصح في بقعة معينة من العالم لا تصح بالضرورة في منطقة أخرى من الكرة الأرضية، وأنّ مجتمع ملحد بأكثريته، يغرق في المادية والكثير من السطحية، يختلف عن مجتمع متديّن يتمسك بروحيانته أكثر مما يتمسك بحياته، وأنّ رسولهم أغلى عليهم حتى من أنفسهم ومن إخوانهم في الدين والعقيدة الذين يذبحون في بورما او في زينجانغ في غرب الصين.

 

محزن هو مشهد فرنسا اليوم، فرنسا التي تستحق أفضل من أولئك الذين يدفعونها بتهوّر كبير في أتون صراع الحضارات في الداخل والخارج، لا لشيء، فقط من أجل حفنة من الأصوات يعتقدون خطأ أنهم سيأخذونها من درب اليمين المتطرف، حفنة من الأصوات أصبح ماكرون بأشد الحاجة إليها لا سيما بعد فشله المتكرر في معالجة تداعيات أزمة كورونا الكارثية على فرنسا.

 

محزن هو مشهد فرنسا اليوم، فرنسا التي تزخر بكبار علماء السياسية والاجتماع المختصين بالعالمين العربي والإسلامي، فرنسا  التي تزخر بالدبلوماسيين المحنكين، ولكن التي يفتقر قادتها إلى الإرادة في سماع حكمة كل هؤلاء وصوت الضمير. 

Comments