لبنان: حكم الخبراء في زمن استبدال الوصايات



مقال نشره العربي الجديد بتاريخ 12/02/2025

في كتابه "نظام التفاهة"، المترجم إلى عدّة لغات، يبيّن الفيلسوف الكندي، آلان دونو، كيف تشكل التكنوقراطية رافعة للرديئين ("التافهين"، بتعبيره) في الوصول إلى أعلى المراكز السياسية، والسيطرة على الحكم ومؤسساته، وكيف يحوّلون أنظمة الحكم السياسية التي يسيطرون عليها إلى أنظمة تافهة، ديمقراطية بالظاهر، ولكنها مجافية لكثير من المبادئ الديمقراطية في الحقيقة، وكيف يوسّعون سطوتهم تدريجياً على جميع الميادين: الأكاديمية (الجامعات)، والاقتصادية، والتجارية، والمالية، والثقافية، محوّلين العلم إلى مجرّد سلعة، مستبدلين مفهوم المثقف، وسعة أفقه، وتفكيره الحر، بمفهوم "الخبير" المتخصّص في مجال محدّد، والذي يبيع خبرته لمن يدفع أكثر في أسواق العمل و"الحوكمة".

وإذا كانت هذه الموجة التكنوقراطية قد ضربت الاتحاد الأوروبي وأميركا في العقود الأخيرة، ما ولّد سخطًا شعبيًا عليها باعتبارها مقبرة للسياسة وللديمقراطية، تمثّل بصعود اليمين الشعبوي، وظهور شخصيات مثل دونالد ترامب، فضلًا عن تصويت الأكثرية الشعبية في كلّ من فرنسا وهولندا ضدّ مشروع الدستور الأوروبي في استفتاء 2005، معطوفًا على استفتاء البريكست سنة 2016 الذي أدى إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيبدو أنّ هذه الموجة قد وصلت إلى لبنان مع عهد الرئيس جوزاف عون وتشكيل حكومة نواف سلام. 

لا بدّ من ذكر النقاط الإيجابية، وهي كثيرة، في تشكيلة الحكومة، التي تدفع نحو التفاؤل، وأهمها أنّه لا ثلث معطّلاً لصالح فريق 8 آذار سابقًا، وذلك للمرّة الأولى منذ عام 2008، وأنّ الثنائي الشيعي ليس لديه مبدئيًا حصرية التمثيل الشيعي في الحكومة (الوزير الشيعي الخامس ليس محسوبًا على الثنائي الشيعي مبدئيًا)، ما من شأنه أن يحصّن ميثاقية الحكومة في حال استقالة وزراء الثنائي كما فعلوا في 2006، كذلك فإنّ من المرجّح ألا يتضمّن البيان الوزاري ثلاثية "جيش شعب مقاومة". الحكومة تتضمّن ثلّة من المثقفين المميّزين مثل نواف سلام (رئيس الوزراء)، وطارق متري، وغسان سلامة، كذلك فإنّها تشتمل على 5 نساء من إجمالي 24 وزيراً، وهي سابقة إيجابية في لبنان.

ولكن، من ناحية أخرى، هناك عدّة نقاط يمكن أن تثير القلق: ولعل أهمها ضعف الوزن السياسي العام للحكومة، فهي حكومة تقنية (يطغى عليها الطابع التكنوقراطي)، تشكيلتها تعطي انطباعًا عامًا بأنها أقرب إلى مجلس من الموظفين الخبراء لإدارة شخصية معنوية تحت وصاية أجنبية، منه إلى حكومة دولة، وذلك في لحظة تنتقل فيها البلاد من وصاية إيرانية إلى وصاية أخرى أميركية؛ مع مبعوثة أميركية تتبجح بإعطاء نفسها علناً، من القصر الرئاسي، الحقّ في التدخل في تشكيل الحكومة، مغتبطة بـ"هزيمة" حزب اللّه على يد إسرائيل. 

فضلًا عن ذلك، وللمفارقة، فإنّها تشكيلة حكومية تهيمن عليها قوتان سياسيتان راديكاليتان متواجهتان: القوات اللبنانية (4 وزراء) مقابل الثنائي الشيعي (4 وزراء). فصحيح أنّ الوزراء غير حزبيين، ولكنّ الحكومة غالباً حزبية، إذ غالباً ما سُمِّي الوزراء غير الحزبيين من قبل أحزاب سياسية تناتشت الحقائب الوزارية فيما بينها بشراهة كبيرة وإدمان للمحاصصة. ويترافق ذلك مع غياب قوة وسطية (ولا سيما سنيّة) داخل الحكومة. صحيح أنّ الحكومة تتضمّن وزراء سنّة بسبب الكوتا الطائفية، ولكنهم لا يتمتعون بأيّ وزن سياسي تمثيلي سُني حقيقي، ولم يُسمَّوا من قبل أيّ قوّة سنية ذات وزن سياسي. وهنا التخوّف مشروع من حكومة أضداد، تسيطر عليها وتتواجه فيها راديكاليتان طائفيتان (الثنائي الشيعي/القوات اللبنانية)، بغياب عمود فقري وسطي ممكن أن تشكّله قوّة سُنية وازنة، ما يمكن أن يجعلها بسبب كلّ ذلك حكومة مناكفات، ففشل.

ولا بُدّ من الإشارة إلى نقطةٍ أساسية، وهي طغيان الطابع النخبوي على الحكومة التي تتمثّل فيها بشكل مفرط النخبة الفكرية والبرجوازية (الإستبلشمنت)، ولا سيما من الجامعة الأميركية في بيروت وغيرها من الجامعات الخاصة وذات التوجّه "الغربي" في البلاد، مع غياب شبه تام لوزراء معروفين (أو من الذين لديهم شعبية) بين الطبقات الشعبية، ما ينتج منه تركّز شعبية الحكومة بشكل أساسي ضمن الطبقة المتوسطة، ولا سيما البرجوازية الصغيرة، وشعبية محدودة، بل ربما هزيلة، ضمن الشرائح الشعبية، وهو ما يمكن أن يتسبّب بقطيعة بين الحكومة و"الشارع"، وأن يوغل في إضعاف وزنها السياسي. 

وفي السياق، من المتوقّع أن يظهر قريبًا، في كلّ من 14 شباط (إحياء ذكرى اغتيال رفيق الحريري)، و23 شباط (تشييع حسن نصر الله الذي اغتيل في سبتمبر/أيلول الماضي)، أنّ الوزن السياسي الحقيقي في البلد هو خارج الحكومة، وأنّ الحكومة ليس لديها ثقل تمثيل شعبي حقيقي (ضعف وزن سياسي عام)، وهذا أمر خطير في نظام ديمقراطي حيث قدرة السلطة التنفيذية على أن تعكس فعليًا إرادة أكثرية الشعب هي معيار أساسي.

إنّ توافق رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على حكومة تقنية أمر مفهوم، ولا سيما أنّ ما حتّم ذلك هو غالبًا الضغوط الخارجية لإقصاء حزب اللّه والقوى السياسية المتهمة بالفساد عن الحكومة، فاجتُرِح الخيار التكنوقراطي حلاً وسطاً للملاءمة بين الشروط الخارجية لدعم لبنان من جهة، والتوازنات الداخلية ومقتضياتها من جهة أخرى. ولكن هذا خيار ليس دون عواقب محتملة. 

الديمقراطية من دون منسوب من التكنوقراطية ممكن أن تصبح تسيّدًا لعدم الكفاءة، ولكن الأكيد أنّ التكنوقراطية من دون احترام التمثيل الديمقراطي ممكن أن تتحوّل إلى ديكتاتورية خبراء. إنّ الوزير في النظام الديمقراطي هو أولاً منصب سياسي مُناط به دور سياسي، قبل أن يكون مجرّد منصب إداري، فهو ليس فقط الرأس الإداري لوزارته، بل هو أولًا عضو في حكومة تُناط بها دستورياً السلطة الإجرائية، المنبثقة من انتخابات تشريعية. ولذلك مثلًا تتمتّع "الأعمال الحكومية" بحصانة قضائية (لا تخضع لرقابة المحاكم الإدارية) لأنها أعمال ذات طبيعة سياسية أو دبلوماسية محضة، وذلك بالاختلاف مع القرارات الإدارية "العادية".  

أما الأحزاب السياسية، فصحيح أنها تمرّ بمرحلة إعادة نظر حول فائدتها في كثير من بلاد العالم، وصحيح أنه تم غالبًا تحويلها في لبنان إلى أدوات استزلام، ولكن هذا لا يعني إطلاقاً أنه يجب أو يمكن الاستغناء عنها في الحياة السياسية، بل هي لا تزال (وغالباً ستبقى، أقله طويلاً) أساسية في أيّ نظام ديمقراطي. في لبنان، الواقع يقول (شئنا ذلك أو أبينا) إنّ الأحزاب السياسية "التقليدية" تمثل أيضاً الناس (وليس فقط التغييرين المحبذين للتكنوقراطية هم من يمثلون الناس)، وإنها منبثقة من الناس، ولا سيما أنها نالت الأكثرية الساحقة من مقاعد المجلس النيابي في الانتخابات الأخيرة. 

السياسة ليست عيبًا. لا يمكن بناء دولة من دون سياسة 

Comments