بروبغندا حزب اللّه: خمسون درجة من السذاجة

 


مقال نشره "العربي الجديد" بتاريخ 06/08/2025

السذاجة هي في اعتبار أننا، في لبنان، ما زلنا في عام 1978 أو في عام 2000، في حين أنّ الوضع اختلف اليوم: فحزب الله كان حركة مقاومة ضد الاحتلال، وذلك بعد أن استطاع احتكار المقاومة ضد إسرائيل، ولا سيما بعد تصفية قيادات المقاومة الوطنية اللبنانية وكوادرها الأساسية في ثمانينيات القرن الماضي. فمقاومة الاحتلال عسكرياً حق يكفله القانون الدولي ضمن شروط، ومقاومة حزب الله حررت الأرض في عام 2000؛ لكنه بعد ذلك، ولا سيما اليوم، أضحى عبئاً على البلد، إذ يستفرد في كل مرة بقرار الحرب، خارج الأطر الدستورية، لإدخال لبنان في مغامرات انتحارية كرمى لعيون إيران ومحورها، مستجراً بذلك الخراب والاحتلال من جديد.

السذاجة هي في طمر الرؤوس في الرمال أمام الواقع القانوني، والتصرف وكأنّ إسرائيل ليست دولة في نظر القانون الدولي (للأسف، ولكن هذا هو الواقع القانوني في نظر القانون الدولي)، وتوقّع أن يقبل العالم بأن يساوي قانونياً بينها وبين جماعة مسلحة من غير الدول هي حزب الله.

السذاجة هي في الاعتقاد أنّه ما زال بالإمكان التحجج اليوم بضرورة توافق كل اللبنانيين، بوصفه ذريعة لتأجيل التساوي بين اللبنانيين. السذاجة هي في الاعتقاد أنّه ما زال بالإمكان الاستمرار بصيف وشتاء تحت سقف واحد، أي بطائفة مسلحة وطوائف غير مسلحة، من دون أن يكون بقاء الكيان اللبناني ومصير البلد على المحك. السذاجة هي في الاعتقاد أنّ سلاحاً غير شرعي يأتمر بدولة أجنبية، وقد هُزِم منذ أشهر قليلة، سيحمينا نحن اللبنانيين.

السذاجة لحد العمى هي في عدم رؤية أنّ إيران، التي يأتمر بها هذا السلاح إلى حدّ معتبر، لا تحمينا، وقد تركت قائد هذا الحزب يُغتال في لبنان ولم تحرك ساكناً، اللهم إلا بعض الاستعراض التافه، ووقفت تتفرج على تحطيم قدرات هذا التنظيم شر تحطيم. السذاجة هي في الاعتقاد أنّ من يمنع قيام الدولة بسلاحه، ومن ينتهك سيادة الدولة بسلاحه، يحمينا؛ وأنّ من يريد بقاء لبنان مجرد ساحة صراع بين إسرائيل وإيران، رافضاً أن يصبح لبنان وطناً يُصان بالأمن والسلم، يحمينا. السذاجة هي في الاعتقاد أنّ من قام منتسبون إليه باغتيال رفيق الحريري، وأنّ من شارك في إراقة دم الشعب السوري إلى جانب نظام مجرم، يحمي لبنان.

السذاجة واستغباء اللبنانيين هما في اعتبار أنّ "السلاح شأن داخلي" (كما صرح أمين عام حزب الله في خطابه الأخير بتاريخ 30 تموز/يوليو)، في حين أنّ سلاح حزب الله يشكل "تهديداً للأمن والسلم الدوليين" (شرعة الأمم المتحدة) في نظر مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وأنّ السلاح شأن دولي أيضاً. فالمطلوب "حل جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها" (بتعبير قرارات مجلس الأمن)، و"بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية"، أولاً لاسترداد الدولة اللبنانية كامل سيادتها التي ينتهكها وجود سلاح المليشيات، وأيضاً للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين في نظر مجلس الأمن.

وللتوفيق بين الأمرين، طلب مجلس الأمن (وكرر طلبه عدة مرات) من الدولة اللبنانية نزع سلاح المليشيات بما فيها حزب الله، ولم يطلب تنفيذ ذلك من أي طرف خارجي، وذلك للحفاظ على سيادة الدولة اللبنانية. ولذلك يجب قراءة قرارات الشرعية الدولية بما يتلاءم مع احترام سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه، وعدم تحويلها إلى إملاءات لصالح إسرائيل التي تنتهك كل ما سلف، كما بينا ذلك في تدوينات سابقة كثيرة. لكن هذا لا يجعل إطلاقاً من سلاح حزب الله شأناً داخلياً فقط.

السذاجة هي في الاعتقاد أنّه ما زال بالإمكان التحجج بضرورة توافق كل اللبنانيين، بوصفه ذريعة لعدم تطبيق القرارات الدولية بما يتعلق بحصر السلاح، وأنه أمام الحجم المهول للضغوط الدولية على البلد في هذا الخصوص، تحت التهديد بحفل همجي إسرائيلي جديد ضد لبنان لن يستطيع سلاح الحزب ردع حدوثه إطلاقاً، ومعطوفة على وضع البلد المزري على كل المستويات، ما زال لدى لبنان ترف طمر الرؤوس في الرمال والتسويف والمماطلة إلى ما لا نهاية.

السذاجة هي في القول إننا لا نريد تطبيق قرارات الشرعية الدولية تشبهاً بإسرائيل التي لم تطبق لسنوات طويلة القرار 425 الصادر سنة 1978 والذي طلب منها الانسحاب الفوري من جنوب لبنان. فالحرب بالمقارنات سهلة جداً، والتظلم حول ازدواجية معايير الغرب لا يكفي. إسرائيل كانت مدعومة من قوة عظمى في عدم تطبيقها للقرار 425 لسنوات، ولكن اليوم، من سيدعم لبنان في حال قرر الاستمرار في المكابرة والعناد وعدم تطبيق قرارات الشرعية الدولية بما يتعلق بحصر السلاح؟ ومن سيقدم عندئذ الدعم المالي لخروج لبنان من الكارثة المالية والنقدية والاقتصادية التي يرزح تحتها منذ ست سنوات؟ من سيعيد إعمار الجنوب؟ هل هو "القرض الحسن"؟ أو أموال الكبتاغون؟ ومن سيقف مع لبنان عسكرياً في حال تم إطلاق يد إسرائيل الهمجية ضد لبنان لأنه لم ينفذ القرارات الدولية؟

هل هي إيران التي تضرر حلمها الكبير ودرة تاجها (البرنامج النووي) في ليلة ليلاء؟ ومن سيدافع عن لبنان فعلياً عندئذ؟ هل هو حزب الله المخترق للعظم، الذي صفت إسرائيل قياداته وما زالت تصفي يومياً، حزب الله الذي يرتكب أخطاء فادحة حتى هواة لا يرتكبونها (وثقة البيجر)؟ هل هذا سيستطيع أن يحمي لبنان؟

السذاجة هي في الترداد الببغائي الذي يقوم به البعض لعبارة "العالم لا يفهم إلا لغة السلاح والقوة"، لأنّ هذا القول هو تبرع مجاني لتجسيد الصورة النمطية المغلوطة العنصرية الاستشراقية التي يرسمها بعض الغرب عن شعوب المنطقة، ولا سيما أننا لا نحترم إلا لغة القوة (راجع تصريح المبعوث الأميركي توم براك للنيويورك تايمز بتاريخ 3 تموز/يوليو الماضي).

السذاجة في القرن الحادي والعشرين هي في إصرار البعض في لبنان على الاستمرار في رفض التكلم بلغة الدولة والمؤسسات والقانون الدولي، لغة الدولة التي وحدها تحمي الجميع، وإدمانهم على لغة المليشيات التي تجر الهزائم والخراب على نفسها وعلى البلد كرمى لعيون قوى خارجية.

السذاجة ليست في الاعتقاد بأهمية القانون الدولي، بل السذاجة هي في أن يتبجح البعض بالكفر بالقانون الدولي، ولا سيما إن كانوا من أهل العلم والاختصاص، في حين أنّ من مصلحة لبنان وباقي دول الجنوب العالمي الدفع بواقعية وبعيداً عن الأوهام نحو تدعيم نظام عالمي قائم على احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان، وألا تكون إسرائيل استثناء فيه. وليس الاستسلام واليأس أمام "الاستثناء الإسرائيلي" وتقديم أكبر هدية لها عبر التشبه بها، فأكثر ما يفيد إسرائيل ومثيلاتها كي تستمر في جرائمها وفي إفلاتها من المحاسبة والعقاب عليها هو إسقاط القانون الدولي برمته، بدل العمل على نظام عالمي قائم فعلياً على القانون الدولي لا يستثني أي طرف.

في المحصلة، التوافق أساسي في لبنان، ولكن لم يعد بالإمكان الاستمرار في تشويهه ومسخه عبر تحويله إلى وسيلة لتعطيل قيام الدولة. لا بد من قرار بحصر السلاح بيد الدولة يكون دليلاً على حسن نية لبنان في تنفيذ القرارات الدولية، على أن يكون التنفيذ من دون تسرع، ولا سيما بسبب ما يمكن أن ينتج عن التسرع من تفريط في سيادة لبنان أمام إسرائيل. ولذلك فإنّ أولوية وقف النار من جانب إسرائيل وانسحابها الكامل إلى جنوب الخط الأزرق (كما هو وارد في البنود الأولى، وقبل أي شيء آخر، في القرار 1701 وفي اتفاق وقف الأعمال العدائية، وذلك بالتوازي مع انتشار الجيش اللبناني واليونيفيل في منطقة جنوب الليطاني وتفكيك بنية حزب الله فيها، وهو ما التزم به لبنان إلى حد بعيد) نقطة أساسية لا يمكن المساومة عليها، وهذا ما أكده رئيس الجمهورية في خطابه الأخير في 31 تموز/يوليو 2025 بمناسبة عيد الجيش، وهو أمر يحسب له.

تبقى العبرة في تنفيذ ما جاء في الخطاب عبر الجلسة المتوقعة لمجلس الوزراء يوم الثلاثاء في الخامس من الجاري، الذي عليه اجتراح حل وسط، أي بعيداً، من جهة أولى، عن التسويف من دون أي أفق زمني حول حصر السلاح، وبعيداً، من جهة أخرى، عن التسرع في وضع حصر السلاح حيز التنفيذ شمال الليطاني، وذلك تفادياً لتحويل قرارات الشرعية الدولية إلى إملاءات لصالح إسرائيل التي ما زالت لم تلتزم بوقف النار والانسحاب الكامل إلى جنوب الخط الأزرق، وتفادياً لأن يشعر قسم من اللبنانيين بالطعن في الظهر من قبل دولتهم ومن قبل طوائف أخرى في ظل هذا التعنت الإسرائيلي في انتهاك سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه.

السذاجة هي في اعتبار أنّنا بـ"الهوبرة" والانقسام الداخلي والتشنج سوف ننتصر على إسرائيل؛ والسذاجة في أن نبقى غارقين في الأحلام والشعارات، بدل أن نرى الواقع وميزان القوى كما هو كي نتصرف على أساسه في وجه العدو.

Comments