شمال الليطاني: بعد جنوب الخط الأزرق




تدوينة نشرها العربي الجديد بتاريخ 11/04/2025

منذ حرب الخريف الماضي، يجعل الاستقطاب السياسي حول تسليم سلاح حزب اللّه للدولة اللبنانية، من هذه المسألة الجوهرية، أسيرة سياسة الحدّ الأقصى عند كلّ من طرفي الانقسام الداخلي. من جهةٍ أولى، تُنادي قوى سياسية، على رأسها حزب القوات اللبنانية، بضرورة تسليم سلاح حزب اللّه، بما في ذلك شمال الليطاني، الآن، سريعًا، معتبرةً عمليًّا أنّه لا مشكلة من الاستفادة من الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، والضغوط السياسية الأميركية والعربية (عرب "الاعتدال") المُرافقة لها، من أجل سحب هذا السلاح، متذرّعًة بأنّ تسليم حزب اللّه سلاحه للدولة اللبنانية سريعًا، بما في ذلك شمال الليطاني، يشكّل سحبًا للذرائع أمام إسرائيل في استمرار اعتداءاتها على لبنان. في المقلب الآخر، يبدو أنّ قوى سياسية أخرى، على رأسها الثنائي حزب اللّه وحركة أمل، تدأب، كعادتها منذ عقود، على سياستها في التسويف، والمماطلة، والإبهام، حول ضرورة تسليم سلاح حزب اللّه للدولة اللبنانية، ولا سيما شمال الليطاني. ينم كلّ من الموقفين آنفي الذكر عن سيادية انتقائية (إما تغليب السيادة بشقها الداخلي على حساب السيادة بشقها الخارجي، وإما العكس)، وعن فئوية بالتعاطي، تضرّ بمصلحة لبنان العليا.

أمام هذا الواقع، المطلوب من الحكومة اللبنانية ألا تنصاع لأيّ من طرفي الاستقطاب الداخلي العقيم، وأن تعتمد معادلة سياسية واضحة ("شمال الليطاني: بعد جنوب الخط الأزرق")، تحافظ من خلالها، بأفضل وسيلة ممكنة، على سيادة لبنان، من دون انتقائية، على ضوء القرارات الدولية.

من أجل ذلك، من الحري أن يطالب الموقف الرسمي اللبناني إسرائيل بالالتزام باتفاق وقف الأعمال العدائية معطوفًا على القرار 1701، ولا سيما أن تنهي احتلالها لأراضي لبنانية (النقاط الخمس)، وأن تسحب قواتها إلى جنوب الخط الأزرق (ولا سيما أنّ الاتفاق لا يُعطي إسرائيل إطلاقاً أيّ حقّ، تحت أيّ حجّة كانت، بأن تُبقي قواتها في لبنان في نقاطٍ معينة بعد انتهاء مهلة الشهرين التي جرى تمديدها لفترة قد انتهت منذ 18 فبراير/شباط 2025، كما أنّ الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على لبنان منذ قبول الاتفاق تتخطّى إطار "الدفاع عن النفس" وشروطه، لتشكّل عدوانًا على لبنان)، وذلك بالتوازي مع انتشار الجيش اللبناني وحده في الجنوب (جنوب الليطاني)؛ وأنّه بعد ذلك، يمكن عندها الكلام عن تسليم سلاح حزب اللّه شمال الليطاني للدولة اللبنانية، وليس قبل. وإلا، يكون ذلك تشويهًا لقراراتٍ دولية (ولا سيما 1559)، لم تصدر خلال نزاع مسلّح قائم أو لوقفه (على عكس القرار 1701)، قرارات فيها مصلحة سيادية أكيدة للبنان الدولة؛ تشويهها عبر تحويلها لمجرّد إملاءات لصالح الإسرائيلي وهو ينتهك سيادة لبنان، وهو أمر يفرّغ هذه القرارات من مبتغاها وروحيتها (راجع تدوينات سابقة للكاتب).

باختصار، الدولة اللبنانية في موقف لا تُحسد عليه، ولكن اليوم عليها أن تحافظ أولا على سيادتها بوجه إسرائيل (بالتوازي مع نشر الجيش في الجنوب)، ثم، مباشرة، أن تعالج مشكلة سلاح حزب اللّه شمال الليطاني، وهو أمر لن تستطيع أن تتنصّل الدولة اللبنانية من تحمّل مسؤولية معالجته.

ولذلك، فإنّ رهان بعض اللبنانيين على جولة ثانية من الحرب بين إسرائيل وحزب اللّه من أجل تدمير سلاح الأخير، بما في ذلك شمال الليطاني (لأنّ الحزب، بنظرهم، يفضّل أن تدمّر إسرائيل سلاحه، على أن يسلّمه للدولة اللبنانية) تفكير قاصر استراتيجيًّا، هذا إن وضعنا جانبا إنّ تفكيرًا كهذا لا يمّت بصلة لتفكير رجال/نساء الدولة، إذ ينم عن أنّ هؤلاء مستعدون للتفريط بلبنان وسيادته، فقط من أجل التخلّص من حزب اللّه (سيادية انتقائية)؛ فلا يفرقون كثيرًا عن طريقة تفكير الحزب الأنانية، أقلّه في هذا الخصوص. لن "يرتاح" هؤلاء اللبنانيون من مشكلة الحزب برهانهم القاصر هذا، فمهما تعدّدت الجولات، لن تستطيع إسرائيل تدمير كلّ سلاح الحزب: يمكنها أن تدمّر ترسانة سلاحه النوعي والثقيل (هذا مع العلم أنّ حزب اللّه أساسا حركة حرب عصابات، يستطيع أن يتكيّف مع تدمير سلاحه النوعي والثقيل)؛ ولكن طالما بيد الحزب سلاح خفيف ومتوسّط، فسيبقى يشكّل مشكلة لباقي اللبنانيين، ولن "تزمط" الدولة اللبنانية من ضرورة تحمّل مسؤولياتها في هذا الخصوص، وذلك أولًا لأنها دولة، وعلى أيّ دولة أن تحصر السلاح بيدها، وأن يكون قرار الحرب بيدها؛ ثم تطبيقًا للطائف، وللقرارات الدولية، ولا سيما 1559 و1680.

ولكن واهم من يعتقد أنّ هناك حل سهل وسحري لسلاح الحزب، أي كما تقول، بكثير من الشعبوية والديماغوجية، كثير من القوى السياسية اللبنانية التي تصف نفسها ب "السيادية"، حيث لسلاح حزب اللّه بعد خارجي (إيراني) أكيد، ولكن له بعد لبناني أيضًا، ولا يمكن إغفال أيّ من البعدين والتركيز حصرًا على البعد الإيراني مثلًا، في معالجة هذه المعضلة. وإلا، يكون ذلك وقوع مؤكّد في تفكير سطحي، مانوي، محدود، قاصر، غير منتج. وعليه، إنّ الحوار حول سحب سلاح حزب اللّه، الذي يبدو أنه مطروح من قبل رئاسة الجمهورية، خيار صائب، بشرط أن يكون محصورًا بالوقت، تلافيًا للتسويف المعهود من قبل حزب اللّه في هذا الخصوص، وأن يكون التفاوض بدرجة معينة من الحزم من قبل الدولة اللبنانية، ومن موقع القوّة التي تمنحها إياها "الشرعية" بوجه السلاح غير الشرعي.

هذا مع العلم أنّ اعتماد لبنان على الدبلوماسية حصرًا بوجه إسرائيل، من دون بناء قدرات دفاعية للدولة (وحدها)، مشروع فشل استراتيجي فادح، ولا سيما على المدى الطويل، فلو كانت الدبلوماسية كافية لوحدها أن تحمي الدول، لما كانت الدول قد بنت جيوشًا وقدرات دفاعية، فحتى الدول الحيادية كسويسرا لديها جيش وقدرات دفاعية معتبرة. اليوم، مع تكرار الاعتداءات الإسرائيلية السافرة، ولا سيما منذ قبول اتفاق وقف الأعمال العدائية الأخير، يشعر لبنان بفداحة الخطأ الذي ارتكبه بحقّ نفسه عندما رفض، نزولًا عند ضغوط أميركية، عرضًا روسيا في 2010 حول 10 طائرات ميغ 29، وعددًا من الدبابات حديثة الطراز. إن لم تكن مدعّمة ببناء قوّة عسكرية للدولة (وحدها) ولو بالحدّ الأدنى، تبقى الدبلوماسية لوحدها غير قادرة على حماية لبنان، ولا تعدو كونها عندئذ محاولات، مذلّة للبنان، في استجداء لعواصم القرار للضغط على إسرائيل، في حين أنّ تلك العواصم متواطئة لدرجة كبيرة مع إسرائيل وتغطيها فيما تقوم به من اعتداءات متكرّرة تنتهك لبنان وسيادته وسلامة أراضيه.

كما أنّه في حال لم تبني الدولة اللبنانية قدرات دفاعية جدية ولو بالحدّ الأدنى، أي تفاوض مستقبلي مع إسرائيل، إن كان ذلك بهدف ترسيم حدود، أو هدنة، أو اتفاقية سلام ربّما، سوف يكون عندئذ من موقع ضعف كبير للبنان. فضلًا عما تقدّم، من شأن بناء قدرات عسكرية للدولة أيضا أن يقطع الطريق على تذرّع ميليشيات بغياب القدرة الدفاعية للدولة بوجه إسرائيل، من أجل تبرير سلاحها (أي سلاح المليشيات).

أما الدفع لعقد اتفاقية سلام بين لبنان وإسرائيل، وانخراط لبنان في مسار التطبيع، وهو ما بدأ يروّج له بعض النواب السنة، وبعض المعلّقين السياسيين اللبنانيين على شاشات عربية، ولا سيما من باب ضرورة أن يسير لبنان في هذا التوجّه العربي بقيادة السعودية تلافيًا للعزلة: فالسلام بين لبنان وإسرائيل لا يجب أن يكون من المحرّمات الأخلاقية/الدينية، ولكن بالمقابل، إنّ سلام الاستسلام ليس تحرّرا ذهنيًا من قبل "العقل العربي"، أي ليس كما يحاول تصوير ذلك بعض "البني وي وي" الذين يتملكهم بعض التفكير الاستشراقي العنصري السخيف، ويردّدونه ببغائية من دون أدنى حس نقدي.

بغضّ النظر عن أنّ الظروف الآن غير مؤاتية إطلاقًا للبنان وحقوقه وسيادته ومصالحه في مسألة السلام بينه وبين إسرائيل، إلا أنّه، بجميع الأحوال، يجب أن يكون السلام بين لبنان وإسرائيل قرارًا لبنانيًا مستقلًا، على ضوء مصلحة لبنان حصرا. من غير المقبول أن يتم فرض الالتحاق بقطار التطبيع على لبنان بإملاء خارجي وبالقوّة، من أجل أن ينضوي صاغرًا ضمن معسكر تحالف "عرب الاعتدال" مع إسرائيل بمباركة أميركا، بوجه محور الممانعة المشؤوم، وبعد أن كان مفروضًا على لبنان الالتحاق بهذا المحور البائد لسنوات خلت؛ خصوصًا أنّ سياسة الأحلاف لا تأتي إلا بالويلات على بلد لديه تركيبة مثل التركيبة اللبنانية. من غير المقبول استبدال الوصاية الإيرانية بوصاية تحالف أميركا وإسرائيل وعرب "الاعتدال".

كما أنّه من غير المقبول محاولة استعمال سنّة لبنان كحصان طروادة لمحاولة فرض هذا الإملاء على لبنان، ولا سيما في ظلّ غطرسة إسرائيلية واعتداءات متكرّرة على البلد لا يمكن أن يبرّرها شيء، لا سلاح الحزب ولا غيره. سنة لبنان ليسوا رعايا سعوديين في لبنان؛ سنّة لبنان لبنانيون، لبنانيون، لبنانيون، كانوا دائمًا في الطليعة سياسياً في وجه العنجهية الإسرائيلية المتمادية ضدّ لبنان، ولا بُدّ أن يكونوا اليوم أوفياء لتاريخهم ولهُويّتهم اللبنانية، وأن يسقطوا مع غيرهم من اللبنانيين، بإذن اللّه، مشاريع الخضوع والذل والخنوع التي بدأت تظهر محاولات فرضها على البلد، بالحديد والنار، من أطراف متعدّدة.

أعان اللّه لبنان، وحماه، ولا سيما من كلّ الذين يريدون الحفاظ على استعلائهم على باقي اللبنانيين ولو كلّف ذلك تدمير البلد مرات ومرات عبر السنين، كما من اللبنانيين المراهنين على تدمير لبنان للتخلّص من لبنانيين آخرين.ـ 

Comments