البُخارية: صديقتي الجديدة



مقال نشره العربي الجديد/مدونات بتاريخ 07/04/2025

بفعل الارتفاع التدريجي والكبير، المتواصل في فرنسا منذ سنوات، في الضريبة على التبغ، وصلت أسعار منتجاته لمستويات جنونية، لدرجة أنه مع بداية العام الحالي، أصبحت علبة السجائر الأكثر رواجًا، بسعر ثلاثة عشر يورو. ,تعتبر الحكومات الفرنسية المتلاحقة أنّ رفع الضرائب على التبغ هو الحل الأنجع بيدها من أجل محاولة إبعاد المواطنين عن التدخين، لما للتدخين من مضار صحية كبيرة، ينتج عنها ارتفاع معتبر في الفاتورة الصحية (الضمان الصحي) تتكبدها الدولة. تبقى فعالية هذه السياسة في إبعاد المواطنين عن التدخين موضع شك، وغالبًا بنجاح محدود.

أمام هذا الواقع، يجنح كثير من المدخنين نحو اعتماد اختراع يمكن ربما تسميته، أو أقله تغنيجه اختصارًا، بـ"البُخارية" (ليس وزنًا من أوزان اسم الآلة، ولكن كل أسماء الآلة القياسية المشتقة من بَخَرَ مأخوذة غالبًا؛ فليعذرنا المجمع اللغوي)، كبديل عن التدخين.

يقوم "التبخير" (فايبينغ) على مبدأ تحمية محلول سائل (السائل الإلكتروني)، هو مزيج من البروبيلين غليكول ومن الغليسرول النباتي بنسب متفاوتة، بواسطة بطارية، وذلك عن طريق النفث الذي ينشّط تلقائيًّا السيجارة الإلكترونية، فيجري استنشاق البخار المتصاعد منها.

سوف تكتشف أنّ التبخير عالم قائم بذاته، وأنّ السجائر الإلكترونية أشكال وألوان. في حين أنّ استخدام ولاعة هو غالبًا كل ما يلزمك أن تلمّ به لتدخّن، يختلف الوضع مع السيجارة الإلكترونية، التي تتطلّب عمليًّا من المستخدم أن يكون خريج دراسات عليا في علوم التبخير: فبين نسبة كل من البروبيلين غليكول ومن الغليسرول النباتي في تركيبة السائل، معطوفة على نسبة النيكوتين في السائل، معطوفة على النكهات، معطوفة على قيمة المقاومة الكهربائية، معطوفة على قوة التيار الكهربائي، معطوفة على درجة فتحة الهواء، معطوفة على سعة البطارية، معطوفة على سعة خزان السائل الإلكتروني، سريعًا ما ستجد نفسك غارقًا في محيط من المعلومات والنصائح، التي أحيانًا تكون متضاربة ومتناقضة فيما بينها، حول معادلات معقدة، تتضمن عدة متغيرات.

تبقى التجربة هي الفيصل، مع ما يرافقها من نجاح وفشل، من شعور بالرضا ومن خيبة أمل، من ريق ناشف، والتهاب حنجرة، وألم في النيرة، ووجع رأس، ولا سيما بفعل الإفراط بالتبخير، أو بسبب عدم الالتزام الدقيق بمعادلات التبخير آنفة الذكر.

ما سوف تفهمه سريعًا، هو أنّك لن تبخّر كما كنت تدخّن، إذ تختلف طريقة إشباع الحاجة إلى النيكوتين، بين الوسيلتين: في التبخير، يقوم إشباع الحاجة إلى النيكوتين على التراكمية، التي يستمر مفعولها لفترة أطول، بعكس التدخين، حيث تحمية النيكوتين الموجود في التبغ تشبع الحاجة إليه بسرعة كبيرة، ولكن سرعان ما ينتهي مفعوله في الدماغ.

لذلك، وعلى عكس ما كنت معتادًا عليه مع التدخين، لن تهدّئ من روعك سريعًا "شرقة" واحدة من البخارية أمام منظر أشاوس اليمين المتطرف الفرنسي مثلًا، وهم يتظلمون على شاشات التلفزة، بكثير من النفاق الممزوج بنظريات المؤامرة، من محكمة طبّقت القانون على حزبهم وعلى رئيسته مارين لوبين، التي كانت شنفت آذاننا، لسنوات خلت، بخطابها الشعبوي، الديماغوجي، الأخلاقي، ليس حول ضرورة الحزم في تطبيق القوانين فحسب، بل أيضًا حول طهرانية حزبها المالية، ونضالها لمكافحة فساد النخب السياسية، التي تبين (وليست هذه المرة الأولى) أنها لا تقل وحزبها فسادًا عنها.

أما الأهم، فهو أنك سوف تلاحظ أنّ التبخير ينقصه الصدق، نعم، ينقصه الصدق، إذ يطغى عليه جانب اصطناعي، فهو يقوم غالبًا على الوهم: أن توهم نفسك بأنك تدخّن. أحيانًا، تشعر بأنك تكذب على نفسك، فالبخارية مجرد محاكاة للسيجارة، توفّر بعض الجوانب السلوكية للتدخين، بما في ذلك حركة اليد إلى الفم المرتبطة بالتدخين، ليس أكثر. أما نكهة التبغ الأصلية، فلن تجدها في التبخير، لأنك مهما نوّعت السوائل من فئة النكهة التبغية الصافية (أي دون طعمات أخرى)، ومهما حاول المصنعون أن يقلدوا مذاق التبغ، فما زالوا بعيدين عن النجاح الفعلي في مهمتهم، أقله حتى الآن، أقله حسب تجربة كاتب هذه السطور.

وبجميع الأحوال، يبدو أنه ما زالت الدراسات الطبية غير كافية للجزم بأنّ التبخير أقل ضررًا على الصحة من التدخين، أو أنه يساعد حقًا على الإقلاع عن التدخين.

الأمر الوحيد المؤكد، هو أنّ التبخير أرخص من التدخين، أقله في فرنسا، وأنّ المستقبل للتبخير، وليس للتدخين.

عزيزي الغليون، وقد أصبحتَ، منذ ثلاثة أشهر، مصمودًا أمام ناظري على رف المكتبة، كقطعة الأنتيكا: صدقني، لولا ضيق الجيبة، لما تخليت عنك، وبجميع الأحوال، تأكد أنه، كما تقول ماجدة، "ما حدا بعبي مطرحك بقلبي!"ـ 

Comments