نهائية لبنان فوق كلِّ اعتبار



 

مقال نشره العربي الجديد ـ مدونات بتاريخ 17/07/2025

"لبنان وطن سيّد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضا وشعبا ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دوليا".

بهذه الكلمات يبدأ الدستور اللبناني (الفقرة "أ" من مقدّمة الدستور، وقد أضيفت المقدّمة إلى الدستور اللبناني بموجب القانون الدستوري الصادر بتاريخ 21/09/1990)، وبهذه الكلمات نفسها تبدأ وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) التي توصّل إليها النواب اللبنانيون قُبيل ذلك، في نهايات حرب أهلية عبثية ومدمّرة دامت 15 سنة، تدخّل فيها وسعّر نيرانها القريب والبعيد، غالبًا بذريعة وضع حدّ لها. 

بعد 35 سنة من ترسيخ اتفاق اللبنانيين دستوريًا على نهائية لبنان باعتباره وطنا، يطالعنا المبعوث الأميركي الخاص توم برّاك بحديث إلى صحيفة "ذا ناشونال" الإماراتية حول أنّ لبنان يُواجه خطرًا وجوديًا، فإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، والآن سورية تتجلّى بسرعة كبيرة، وإذا لم يتحرّك لبنان لحلِّ مشكلة أسلحة حزب الله، فسيعود إلى بلاد الشام، مُضيفًا أنّ السوريين يقولون إنّ لبنان منتجعنا الشاطئي. ويأتي موقف برّاك بعد أنباء نقلتها قناة i24NEWS الإسرائيلية، عمّن وصفته بالمصدر المقرّب من الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، أنّ من بين السيناريوهات المطروحة للتسوية بين سورية وإسرائيل أن تحتفظ إسرائيل بثلثي الجولان، وتُعيد الثلث المتبقي إلى سورية، مع إمكانية تأجيره، مقابل "عودة" مدينة طرابلس اللبنانية ومناطق أخرى في شمال لبنان وسهل البقاع، ذات الأكثرية السنية، إلى السيادة السورية. 

ويأتي ذلك أيضًا في ظلّ ما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية عن مصدر دبلوماسي في دمشق قوله إنّ لقاء مباشراً عُقد، السبت 12 تموز/يوليو، في العاصمة الأذربيجانية باكو بين مسؤول سوري وآخر إسرائيلي، وذلك على هامش زيارة أجراها الرئيس السوري أحمد الشرع لأذربيجان. فضلًا عمّا تقدّم، يأتي كلام برّاك معطوفًا على كلام آخر له يحذّر فيه، بعد أيّام قليلة فقط من كلامه الأوّل، من وقوع حرب أهلية في لبنان في حال عدم تسليم حزب اللّه سلاحه، وبعد تصريح سابق له لصحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ الثالث من تموز/يوليو الجاري، يقول فيه برّاك، وهو من أصول لبنانية، إنّ "الجميع في هذه المنطقة يحترمون القوّة فقط، وقد أثبت الرئيس ترامب أن قوّة أميركا هي مقدمة للسلام"، وهو ما ينم عن ذهنية استشراقية مُشبعة بالعنصرية وإيديولوجيا التفوّق العرقي.

يحتار المفوّض السامي الأميركي، وهو صديق شخصي للرئيس الحالي دونالد ترامب، وأتى من عالم الاستثمار في الأسهم الخاصة، سمحت له ثقافة الزبائنية والمحسوبية المنتشرة في أوساط الترامبية أن يبدأ مسيرة مهنية في عالم الدبلوماسية في عمر 78 سنة، في إيجاد الفزاعات للضغط على لبنان. الضغط على لبنان بما يتعلّق بملف حصر السلاح الذي ما زال الحزب يراوغ في شأنه (ولا سيما عبر تذرعه بـ"أرنب" الاستراتيجية الدفاعية)، مع العلم أنّ إسرائيل لم تلتزم بالموجبات التي يلقيها على عاتقها قرار مجلس الأمن رقم 1701 واتفاق وقف الأعمال العدائية؛ والضغط على لبنان، ربّما أيضًا بما يتعلّق بفرض الانضمام إلى حلف أبراهام على بلاد الأرز (راجع التدوينة السابقة لكاتب هذه السطور). 

فغالبًا، التلويح بعودة لبنان إلى بلاد الشام فزاعة، بعبع...، لتخويف لبنان، وذلك بالتكافل والتضامن مع النظام الجديد الذي شارك الأميركيون في تنصيبه في سورية، بعد أن كانوا موافقين ضمنًيا على بقاء النظام المجرم البائد لأكثر من خمسين سنة فيها، والذي كانوا قد باعوا واشتروا معه، خصوصًا بما يتعلّق بالهيمنة على لبنان.

ولكن يبدو أنّ برّاك ما زال يعيش في الماضي، مئة سنة إلى الخلف، وقد توقّف الزمن لديه أيام "مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة" (1936)، عندما كان الاتجاه السائد لدى سنّة لبنان هو الاتجاه الوحدوي. غاب عن برّاك، وربما عن النظام الجديد في سورية أيضًا، أنّ كثيرًا من المياه (والدماء) قد سالت منذ ذاك الزمن. اليوم، سنّة لبنان أوّل من يدافع عن استقلال لبنان، وسيادته، وسلامة أراضيه، وقد دفعوا الغالي والثمين في سبيل ذلك. رياض الصلح، رشيد كرامي، رفيق الحريري، حسن خالد، أحمد عساف، صبحي الصالح، معروف سعد، ناظم القادري، وليد عيدو، وسام عيد، وسام الحسن، محمّد شطح، وغيرهم الكثيرين، مع باقة من الشخصيات السيادية اللبنانية من الطوائف الأخرى منذ الاستقلال، ولا سيما أولئك المنتمين إلى ثورة الأرز و14 آذار، كلّهم استشهدوا "من أجل لبنان" (وهو الشعار الذي تمّ رفعه بعيد استشهاد الحريري)، وليس من أجل بلاد الشام، وليس كي يتم التنكّر اليوم لدمائهم عبر "العودة إلى بلاد الشام".

فإذا كان يعتقد السمسار الأميركي، أو النظام الجديد في سورية، أو غيرهما، أنّ بعض "الأشاوس" من سنّة لبنان، الذين تأخذهم الحمية الجاهلية من قبلية طائفية، فيتحمّسون للعودة إلى "الحضن" السوري، هم يمثلون التوجّه الأساسي ضمن سنة لبنان، وأنّ بإمكانهم، من خلال هؤلاء "الأشاوس"، الضغط على لبنان، ولا سيما بما يتعلّق بفرض الانضمام إلى حلف أبراهام، فهم واهمون، وليخيطوا بغير هذه المسلة السخيفة. توجّه سنة لبنان هو غالبًا سيادي لبناني، ولو كره الكارهون.

إنّ "نهائية لبنان" قد كلّف التوصّل إلى تكريسها، مع غيرها من المبادئ الأساسية، في اتفاق الطائف، 15 سنة حربًا، وعشرات آلاف الشهداء، والجرحى، والمعوقين، والمخفيين قسرًا، والأيتام، والأرامل، فلا يمكن التفريط بها كرمى لعيون السمسار الأميركي، ولا كرمى لعيون لإيران، ولا كرمى لعيون سورية، ولا كرمى لأيّ طرف آخر. 

واستطرادًا، هنا لا بُدّ من توجيه الشكر الكبير لمن ما زال يصرّ في الخارج على إبقاء الساحة السنية في لبنان خالية من القوّة السياسية الأكثر شعبية ضمن سنة لبنان، والتي (رغم الملاحظات الكثيرة عليها وعلى أدائها) لديها توجّه انتمائي لبناني واضح لا لبس فيه ولا مساومة عليه؛ فشكرا على هذا الفراغ السياسي الذي سمح لبعض أصوات النشاز بالارتفاع مجدّدًا في ردّة إلى أطروحات قديمة ضمن سنة لبنان. وشكرًا لهذه القوّة السياسية ولقيادتها على خنوعهم وعدم تجرؤهم على مجابهة الفيتو الخارجي الموضوع على مشاركتهم في الحياة السياسية في لبنان.

وبالعودة إلى الأساس، المؤسف أنّه ما زال البعض في لبنان يؤمن بأنّ لبنان مجرّد "دولة وظيفية"، أي دولة لها وظيفة محدّدة، فإذا انتفت هذه الوظيفة، انتفى سبب وجود دولة لبنان؛ دولة وظيفية يجب أن تتكامل وظيفيًا مع سورية. هذا منطق سماسرة، وليس منطق رجال أو سيدات دولة. من أجل تدعيم دولة لبنان، ليس المطلوب البحث عن وظيفة للبنان يتم ربط وجوده بها، بقدر ما المطلوب، منذ 1920 حتى اليوم، بناء "أمة لبنانية"، وهو، بالمناسبة، تعبير وارد في الدستور اللبناني منذ 1926، تحديدًا في صيغة القسم التي تنصّ عليها المادة 50 منه، وهي صيغة على رئيس الجمهورية التلفّظ بها عند توليه مهامه. من أجل تدعيم دولة لبنان، المطلوب بناء أمة لبنانية على أساس ذاتي، لا موضوعي عنصري، وتحديدًا على قاعدة العيش معا (vivre ensemble)، وهو ما فشل اللبنانيون بتحقيقه حتى اليوم. عند بناء أمّة لبنانية، تتحقّق عندئذ وظيفة لبنان باعتبارها نتيجة طبيعية للأولى، وليس العكس. 

المؤرخ الفرنسي إرنست رينان، وهو الذي، في جانبه المُظلم، بنى الخطاب الأكثر "استشراقية" في محاولة لإضفاء مشروعية علمية على علاقة سياسية طائفية هوياتية (ولا سيما بين فرنسا والموارنة) تمّ غالبًا اختراعها خدمة لمشاريع استعمارية في بلاد الشام، يقول أيضاً، في جانبه المنير، ردّاً على سؤال "ما هي الأمة؟" (عنوان محاضرة له ألقاها سنة 1882): "الرغبة في العيش معًا، والإرادة لمواصلة تثمين التراث الذي تلقيناه دون تقسيم"؛ "إن وجود الأمة هو استفتاء يومي"؛ "الأمة إذن تضامنٌ عظيم، يتشكل من الشعور بالتضحيات التي قدمها الفرد وتلك التي يرغب في تقديمها مجددًا. [...] سأختصر القول، أيها السادة: الإنسان ليس عبدًا لعرقه أو لغته، ولا لدينه، ولا لمجاري الأنهار، ولا لاتجاهات الجبال. إن تجمعًا كبيرًا من البشر، سليم العقل ودافئ القلب، يُنشئ وعيا أخلاقيًا يُسمى أمة". وهذا المطلوب بشكل أساسي في لبنان من أجل الحفاظ عليه، وليس أيّ أمر آخر. 

أما التكامل مع سورية وظيفيًا، فلا يعدو كونه شكلا جديدا من الوحدة، أو أقلّه إعادة تدوير "للمجلس السوري اللبناني الأعلى" وديباجات "التنسيق من أجل تمتين أواصر الأخوة"، التي كلّها، في الحقيقة، مجرّد تجميل فاشل لتقويض استقلال لبنان وسيادته. لا بُدّ من أفضل العلاقات بين سورية ولبنان على أساس الندية والاحترام المتبادل، مع العلم أنّ لبنان ليس سورية، فكل بلد حر بخياراته وبتوجّهاته. 

أخيرًا، وبما خصّ بعض المطالبات السورية بتعويضات عن تدخل حزب اللّه لمدة 13 سنة في الحرب السورية، فلا يجب أن يُنسى أيضاً أنّ من حقّ لبنان مطالبة سورية بتعويض عن احتلال دام 28 سنة. 


Comments