مقال نشره "العربي الجديد" ـ مدونات في 23/09/2025
بالتوازي مع حملة التطهير العرقي، التي يمكن أن ترقى (1) إلى إبادة بحقّ الشعب
الفلسطيني في قطاع غزّة، يتعرّض أيضًا هذا الشعب لإحدى أكبر عمليات الغش والتضليل
والإلهاء في التاريخ. فما عدا الهنود الحمر في الولايات المتحدة (والسكان الأصليين
في القارة الأميركية بشكل أعم)، ربما لم يحصل في التاريخ أنّه تمّ خداع شعب
وتضليله كما يجري اليوم خداع الشعب الفلسطيني وتضليله.
ضع جانبًا الخداع الذي يمارسه المحور الإيراني منذ سنوات، مُستغلًا القضية
الفلسطينية من أجل التوسّع في الإقليم عبر أذرعه، وكورقة في مفاوضاته النووية.
اليوم، يتم إيهام الشعب الفلسطيني، ولا سيما من قبل الغرب الأوروبي، بل حتى من قبل
أهم المنظمات الدولية في العالم، بجملة أوهام، وذلك على سبيل تقديم ما يظنّون أنّه
سيشكّل "جوائز ترضية"، تسمح في الوقت نفسه لهذا الغرب أن يمحو ذنوبه
الناتجة عن تواطئه مع إسرائيل في الجرائم التي ترتكبها بحقّ الفلسطينيين، وأن
يرمّم صورته الأخلاقية (أسطورة "تفوقه الأخلاقي") التي لحق ضرر فادح بها
بسبب الحرب على غزّة، وكلّ ذلك بأبخس الأثمان.
فاليوم، يبدو أنّه قد أصبحت تقتصر كلّ كلفة عملية غسل السمعة، وشراء صورة
أخلاقية جديدة، على بيع مجموعة من الأوهام للفلسطينيين ولمن يؤيّدهم. وتتمحور
تجارة الأوهام هذه حول ثلاثة مواضيع رئيسية:
- محاولة إيهام الفلسطينيين ومن يؤيّد قضيتهم، ولا سيما عبر تقارير
صادرة عن لجان تحقيق أممية، أنّ الأمور قد حُسمت قانونيًا بما يتعلّق بتوصيف ما
يجري في قطاع غزّة بأنّه إبادة، في حين أنّه لن تحسم الأمور إلا بقرار محكمة العدل
الدولية، وأنّه لن يكون بالإمكان بناء "اليوم التالي" قانونيًا إلا على
توصيف صادر من محكمة العدل الدولية (ولا سيما للمطالبة بالتعويض عن الإبادة مثلا)،
وأنّه ربما في نهاية المطاف لن تجري الرياح في محكمة العدل الدولية بما تشتهيه
سفننا رغم كلّ التقارير والآراء الصادرة اليوم بهذا الخصوص، ولا سيما أنّ معايير
التحقيق والإثبات أمام القضاء الدولي أشدّ تطلّبًا من المعايير التي تعتمدها غالبا
لجان التحقيق أو المنظمات غير الحكومية أو غيرهما من الأشخاص المعنويين أو
الطبيعيين عند إبدائهم الرأي حول التوصيف القانوني لما يحصل.
ـ محاولة إيهام الفلسطينيين ومن يؤيّد قضيتهم بأنّ المحكمة الجنائية الدولية سوف تقوم فعليًا بملاحقة القادة الإسرائيليين السياسيين والعسكريين، وخصوصًا معاقبتهم على الجرائم المُتهمين بارتكابها
- أما الطامة الكبرى، فهي مسألة الاعتراف بدولة فلسطينية من قبل بلاد
أوروبية، بالإضافة إلى أستراليا وكندا ونيوزيلندا، وذلك في حين أنّ إسرائيل قد
دمّرت القطاع إلى درجة أنّها مسحت الجزء الأكبر منه عن الخريطة عمليًا، فضلًا عن
توسيعها أخيرًا الاستيطان في الضفة بشكل يقطعها إلى شطرين، ناهيك عمّا سبق من
تجزئة للضفة بسبب الاستيطان لدرجة تفتيتها، مع العلم أنّ إسرائيل تسيطر عمليًا على
نصف مساحة أراضي الضفة. فبأيّ دولة سيعترفون؟ دولة بلا أرض؟ دولة على الورق؟ ورق
يتم "بلّه وشرب مياهه" ما أن ينتهي الاعتراف بالدولة؟ هل أصبح الأهم هو
التلهي مثلا بالجدل حول رفع العلم الفلسطيني على مقرّات البلديات الفرنسية في
اليوم الذي تعترف فيه فرنسا بالدولة الفلسطينية؟ هذا في حين أنّ من يعترفون اليوم
بالدولة الفلسطينية غالبا هم أنفسهم من يقومون بالتوقيع على اعترافهم بها بيدهم
اليسرى، ويرسلون السلاح إلى إسرائيل بيدهم اليمنى!
رغم الأهمية النسبية لهذا الاعتراف، إلا أنّ مسألة وجود شعب مهدّد بالزوال بسبب تعرّضه لحملة تطهير عرقي (بغضّ النظر عن توصيفه القانوني الدقيق) لا يمكن أن تكون ذات أهمية نسبية، بل أهميتها مطلقة، فما على المحك هو وجود شعب، ولذلك لا يمكن التعامل مع هذه المسألة من خلال مجرّد أنصاف حلول رمزية وما شاكلها من الوسائل الواهية وغير الفعالة (إن كانت سياسية أو إعلامية أو حتى قانونية). ليست هذه الوسائل الثانوية بأهميتها كافيةً لمواجهة تحدّي بحجم الواقع الكارثي الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني، وغالبًا لن تكون سياسة ذر الرماد الأخلاقي في العيون هذه كافية لغسل السمعة الأخلاقية للغرب، ولا كافية لأن يقوم هذا الغرب بغسل يديه من كارثية وفداحة ما يحدث للفلسطينيين
أما أكثر ما يؤسف أنّنا باعتبارنا عربا، ومسلمين، بمن فيهم الفلسطينيون،
ولا سيما كثير من الإعلام العربي، نُشارك في حملة الإلهاء والتضليل الكبيرة هذه
بدل أن نفكّكها ونعرّيها ونفضحها ونرفضها، بدل أن نقول لا نريد سياسة الإلهاء
والدجل (بما فيه القانوني) وبيع الأوهام، لا تبيعونا الكلام والتعابير القانونية
والتقارير والآراء! وسائل النضال ما بعد الحداثية غير ملائمة لوقف معاناة الشعب
الفلسطيني: لا يمكن الاستعاضة عن الحقل السياسي الحقيقي بالحقل الرمزي الخطابي،
نريد الأفعال على أرض الواقع، نريد الفعالية، نريد "الخوشنة" (ليس
بالضرورة العسكرية)، خصوصًا أنّ باستطاعة الدول التي تعترف اليوم بالدولة
الفلسطينية إيقاف الحرب، وإيقاف إسرائيل عند حدّها، لو أرادت هذه الدول ذلك
فعليًا: باستطاعة كلّ هذه الدول (وليس بعضها فقط) فرض حظر على صادرات السلاح
لإسرائيل، ووضع العقوبات الاقتصادية عليها مباشرة وليس فقط على المستوطنات في
الضفة الغربية، وتعليق اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وإخراج إسرائيل من
صندوق "هورايزون"، فضلًا عن تعليق اتفاقيات التجارة معها، وسحب السفراء
أو قطع العلاقات الدبلوماسية معها.
ولكن إذا لم تقم الدول العربية أولًا، وهي الأقرب إلى الفلسطينيين، باتخاذ هذه الإجراءات القسرية والعقابية بحقّ اسرائيل، فكيف لنا أن نلوم الغرب على نفاقه وتجارة الأوهام؟
______________________________________________
(1) ورد في الجملة الأولى من النص الأساسي المرسل من قبل الكاتب: "يمكن أن ترقى إلى..."؛ إلا انه تم الاكتفاء ب"ترقى إلى" عند النشر، دون العودة للكاتب. فاقتضى التوضيح

Comments
Post a Comment