حكاية الفرّوج


أحنّ في الغربة إلى ذاك المنظر القابع في الذاكرة.

 فراريج مصفوفة على طوابق من الأسياخ الغليظة، ترقص خلف زجاج سميك، تبرم حول نفسها على إيقاع نار ملتهبة، تتعرّق، فتسيل منها وعليها سواحيب الدهون.

يقترب البائع من الشوّاية، يشير إلى الزبائن بالابتعاد وكأنّه بصدد القيام بضرب من السحر الخطير، يفتح الباب، يقبض بكمّاشة على رأس السيخ، يحرّر بأخرى الفروج، يغلّفه بحنان في رغيف من خبز المرقوق المتلهّف لامتصاص الدهون والشحوم.

بدّك قطّعلك ياه أستاذ؟ بدّك معو بطاطا وحمّص بطحينة؟ يعاجلك بأسئلة وجودية عن كيفية التهامك للفرّوج، وهو يوضّبه في كيس النايلون مع علب الثوم الأبيض والكبيس المجّانيّة.

فجأة، يصبح كل همّك الوصول بسرعة إلى المنزل كي تلتهم الفروج ساخنا. فتتحوّل إلى سائق عنيف يحاول التشاطر، ولكنّ لا شيء في بيروت أقوى من عجقة السير. 

تنتظر بتركيز شديد أمام الشرطي، أعصابك مشدودة، حواسك على أهبة الاستعداد، أنت رهن إشارة صغيرة منه، عينك اليسرى على إشارة المرور علّها تصبح خضراء، وعينك اليمنى على المرآة في داخل السيارة، تعكس لك صورة الفرّوج وهو يتربّع كالملك على المقعد الخلفي، وكأنّه ينظر إليك بتعال وتهكّم وأنت في خضمّ هذه المعمعة، غير قادر بعد على التهامه.

وبالفعل، سرعان ما تعفّ رائحته الشهية في السيارة، تمتزج بعطر الثوم وبعبيق المرقوق، فيسيل لعابك أنهارا. يبدو أنّه بعد أن ذاق ضروب العذاب على أنواعها، هاهو الفرّوج يردّ لك الجميل ويعذّبك بدوره.

تصل إلى البيت، تفتح الكيس، تبدأ بالتهام ما تيسّر من الفرّوج، غير آبه لا بسعرات حرارية من هنا، ولا بكوليستيرول من هناك.. تغوص في نعومة الجلدة، تتمتّع ببياض الصدر، تتلذّذ بطراوة الفخذ.. تنسف كلّ ما تعلّمته من الإيتيكيت وآداب المائدة.. عيناك تلمعان ببريق النشوة.. يداك تلمعان ببريق الدهون.. تأكل وتأكل وتأكل.. حتّى تصيبك التخمة أمام تلفاز يبشّرك بأحوال البلد التعيسة.. 

فتتوقّف عن الأكل.. وتبدأ بالتفكير بالسفر.. وربّما بالهجرة.. فتجد نفسك في الغربة.. بعد سنوات مرّت بلمح البصر.. تحنّ إلى الفرّوج ورقصته النارية.. فتروي قصّتك معه.. ليصبح الفرّوح صورة من الذاكرة، يشوى على نار الحنين الملتهبة..

هي حلقة الفرّوج المفرغة.. هي حكاية جيل منتوف..

جداريّات رقميّة - 3



Comments